رحلة الألف ميل نحو الإصلاح
أسامة العرب
إنّ الممارسات الديمقراطية في البلدان النامية تحفل عادةً بعيوب تنال من هيبة الدولة، كانعدام الشفافية ورداءة الإدارة واستشراء الرشوة وروح الاستغلال، والاستهتار بحقوق الإنسان بحجة أو بأخرى، والفوضى الأخلاقية والضيق الاقتصادي، واختلال ميزان المساواة وسوء السياسة الاجتماعية. ولبنان بطبيعة الحال يعاني بدوره من بعض هذه الآفات بنسب متفاوتة، وإذا كانت السلطات المتعاقبة تتحمّل مسؤولية أكيدة من هذا القبيل. فالمواطن بدوره غير بريء كلياً، لأنه غالباً ما تقبّل هذه الحالة حيناً، وتأقلم معها حيناً آخر، ولم تكن سياسات معالجة الخلل وتقويم الاعوجاج تأخذ حيّز الأولوية في اعتباراته الانتخابية.
إننا من المؤمنين بالديمقراطية نظاماً وثقافةً، لا بل كنمط حياة. ولا يمكن تصوّر الديمقراطية إلا من خلال الإصلاح الشامل، ومن خلال مجموعة من القواعد التي تفتح الباب أمام أفق جديد للسياسة والاقتصاد وتساهم في تعزيز المناعة الاجتماعية وتحسّن جاذبية لبنان للاستثمارات وتموضعه الإقليمي. ولن يكون هنالك إصلاح حقيقي من دون إصلاح سياسي وإداري، ذلك أنّ التغيير المنشود يستهدف معالجة العقم والفساد، الذي من شأنه أن يؤدّي إلى التراجع الاقتصادي.
لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وبالتالي فمن الممكن أن نبدأ من عناوين شتى، كإقرار قانون صارم لتأمين تكافؤ الفرص بين المرشحين للنيابة، وذلك من خلال تحديد سقف الإنفاق الانتخابي، والذي من شأنه أن يحدّ من تحكم المال السياسي في مسار العملية الانتخابية، وكإقرار خطة اقتصادية لمعالجة دوامة العجز المتفاقم في الخزينة، وإقرار برامج اقتصادية واجتماعية تراعي حقوق المناطق المعدومة أو المهمّشة، والتأسيس لصندوق تضامن للحالات الاجتماعية المستعصية، وكإقرار قانون يعمّم خدمة التقاعد في مقابل اشتراك يسدّد طيلة حياة المستفيد ويساهم فيه ربّ العمل والدولة وكالتأسيس لمظلة أمان اجتماعي مبنية على ضمان الشيخوخة وعلى تعميم الضمان الصحي وسياسة النقل العام وزيادة دعم السكن. ومن أهمّ الإصلاحات الضرورية إنشاء وزارة فعّالة للتخطيط وهيئة اقتصادية عليا للتنسيق والتوفيق بين السياسات الاقتصادية المتضاربة، ولا بدّ من التركيز على القطاع الزراعي والصناعي بكلّ مكوّناتهما والإنتاج المحلي وتفعيل الأدوات التمويلية والتقنية المتعلقة بهما كافة، لا سيما أنّ هذين القطاعين هما الأكثر قدرة على خلق فرص عمل بشكل يسمح بإطلاق عجلة النشاط الاقتصادي ويخفّض من الاستهلاك الأجنبي ويرفع من نسب الصادرات اللبنانية إلى الخارج. ومن المهمّ أيضاً إطلاق الحكومة الإلكترونية بأسرع وقت ممكن لتخفيض نسب الفساد الإداري، هذا عدا أنّ العديد من الدول الإقليمية قطعت أشواطاً هامة في هذا المجال، وبالتالي يتحتّم علينا أن نكون أكثر تكيّفاً مع الواقع الجديد على المسرح الإقليمي والدولي.
إنّ من مسلمات أعمال السلطة في أيّ بلد غربي، وضع رؤية إصلاحية شاملة من شأنها أن تطفئ الدين العام وتحفّز الاستثمار، وبالتالي النمو الاقتصادي. ومن ثم وضع برامج إصلاحية تتناول السياسة والإدارة، وتعزّز مقوّمات الاستقرار. وبالتالي فلا بدّ من خلق توافق سياسي واسع في لبنان حول مقوّمات الإصلاح وطريقة تنفيذه، وإنشاء كادر مهني كفوء للوزارة اللبنانية المعنية بمكافحة الفساد، بعد إقرار برنامج عمل لهذه الوزارة وبعد إدخال الشفافية الكاملة في عملها من خلال إشراك الإعلام والرأي العام في عمليات المكافحة. ولن يستتبّ الإصلاح إلا بتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة، والتي هي من المحاور الأساسية في بناء الديمقراطية الحقيقية، وحجر الزاوية في بناء الدولة، وهذا ما سوف يؤدّي إلى الحدّ من الهدر بشكل غير مباشر، ويخفّض بشكل دوري الإنفاق غير المجدي.
أما لجهة كيفية تحفيز السياسة الاقتصادية على صعيد الإنماء والتمويل، فمن البديهيات أننا بحاجة لخصخصة المرافق الخاسرة التي تسجّل عجزاً سنوياً. فالمعروف بأنّ الإدارات الخاصة قادرة على معالجة أزمات الفساد والحرص على استيفاء الإيرادات وقلب القطاعات الخاسرة إلى قطاعات رابحة. ولا حاجة بعدها لارتفاع خدمة الدين العام بسبب الخسائر المنوطة بالدولة بسبب هذه القطاعات، يُضاف إلى ذلك زيادة واردات الدولة المتأتية عن عائدات المرفق بعد خصخصته. كما يجب أن تكون هنالك أبعاد اجتماعية للخصخصة لتأمين العدالة الاجتماعية لبعض المناطق المحرومة، حيث يترتّب على أيّ سياسة اقتصادية تنفّذ تداعيات على الواقع الاجتماعي العام في البلاد. أما الإجراءات الأخرى، فتشمل خفض أعباء الرسوم والضرائب على مشاريع الاستثمار، وتحفيز القروض الميسّرة للمشاريع الزراعية والصناعية الوطنية، ومواصلة الحفاظ على استقرار العملة وضمان سلامة الوضع المالي.
وبالنسبة للمستقبل، فيجب ألا يبقى لبنان من أولى الدول المستوردة على الصعيد الإقليمي، وإنما يجب أن نؤسّس لحالة من الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي من شأنه أن يقضي على حالة الغلاء والتضخم. ومن السهل جداً أن نحفّز الإنتاج المحلي ونخفّف الاستهلاك الأجنبي، من خلال إقرار حزمة من السياسات المالية والضريبية التي من شأنها أن تقلب الكفة لصالح الإنتاج الوطني والاستهلاك المحلي، ما يؤدّي إلى تخفيض تكلفة السلع وتخفيف الضائقة المعيشية الخانقة التي تهيمن على المجتمع اللبناني. كذلك، فيجب أن نولي أهمية كبرى للمعلومات الإحصائية، لدراسة دوامة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المرتقبة، وتوقع الانعكاسات السلبية لعدم المسارعة بمعالجتها في المستقبل القريب والبعيد. كما يجب أن نفصل بين مسألة التشرذم في الواقع السياسي وبين مسألة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي من خلال معالجة الأزمات الاجتماعية وتنشيط حركة الاستثمار، لأنّ سلامة المواطن في مصلحة الجميع.
ختاماً، إنّ من شأن زيادة الأعباء الضريبية بشكل دوري، وعدم معالجة المشاكل البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، أن تؤثر سلباً على واردات الدولة المرتبطة بالحركة الاقتصادية، وأن تؤدّي تباعاً إلى زيادة عجز الموازنة وارتفاع الدين العام. وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا في مواجهة مشاكل اجتماعية بنيوية بسبب استشراء البطالة في صفوف اليد العاملة، وارتفاع معدلات السلع والخدمات، وارتفاع نسب الفقر. في حين أنّ تحقيق النهوض الاقتصادي المطلوب يتطلّب وعياً سياسياً للضبابية التي تحيط برؤية الكوارث المرتقبة قبل وقوعها، والمسارعة في معالجتها حفاظاً على مستقبل البلاد والاستقرار. خلاصة القول، إنّ المشكلة الاقتصادية ليست عصية على الحلّ، والحلّ سهل، إنما يجب أن يكون مبنياً على برنامج إنقاذي، لأنّ التفاؤل كثيراً بدخول لبنان في عداد الدول النفطية أمر غير مستحبّ، إذ إنّ المخزون النفطي بأكمله غير قادر على سدّ الدين العام المتفاقم، كما أننا بحاجة لسنوات عدّة قبل استخراجه. وقد تتخلّل المعالجة بعض المشاكل، ذلك أننا في لبنان نعاني من عدم استقرار سياسي، في حين أنّ المسار التنموي بحاجة إلى وقت وجهود واستقرار مستدام، من أجل قطف ثمار العمل الإصلاحي. ولكن يمكن التخفيف من حدّة هذا الأمر، من خلال التأسيس لمرجعيات اقتصادية عليا ووزارات للتخطيط من شأنها أن تضع الخطط اللازمة وتشرك وسائل الإعلام والرأي العام في المعالجة، إذ إنّ عنوان الإصلاح في العديد من الدول الأجنبية، قد تمّ بناء على ضغط رأي عام محفّز باتجاه التغيير، ومن خلال تعزيز روح المواطنة لدى الشعب، الأمر الذي أفرز رخاءً اقتصادياً ومقاييس راقية وقيماً وأهدافاً ترتكز عليها الدولة والمجتمع على حدّ سواء. إنّ بواعث الأمل كبيرة بأن نرتقي في العهد الجديد إلى مصاف تلك الدول، فيطيب لنا عندها أن نتغنّى بأنّ لبنان بحق يشكل «سويسرا الشرق».