الجملة الروائيّة حياة دالّة تعيش في وعي القارئ
عبد الدائم السلامي
«توجد دوماً جملة واحدة يعتدّ بها في الكتاب، ولا يملك المؤلّف القدرة على تحديدها»…. فرانسواز لوفيفر في «ذهب الغرف».
أقدّر أن الجملة في الرواية جملتان أما أولاهما كثرة فهي جملةٌ صامتةٌ، يابسةٌ وبلا روحٍ، تتهشم بمرور العين القارئة عليها، فلا يبقى منها في الذهن إلا غبارها. هي جملة كتبت لتؤدّي وظيفة حينية في الكلام ثم تنسى كما لو أنها لم تكتب، حتى لكأن كل فضلها إخبارنا أن التزام القول بقواعد اللغة لا يمنحه خلود الدلالة، وأن ما يمنح ذاك الخلود إنما هو شيء خارج الخضوع للقاعدة النحوية.
وأما الجملة الثانية فجملةٌ حيةٌ، قد تقول إنها جملةٌ بليغة التكوين كثيفة الإيحاء، وقد تقول إنها جملةٌ لماحةٌ ضد مجانية الكتابة، تخترق عمى المعنى مثل رصاصةٍ، وقد تقول إنها جملةٌ تشرق في الذهن وتتوهج فيه خلال حدث القراءة، وتظل فيه تحاوره بعد القراءة، ولكنني أقول إنها مثل، بيت القصيد، روح الرواية المعصورة في كلماتٍ، جملةٌ جليلةٌ كأن الرواية كتبت بها ولها، ولتعلن عن ميلادها وتقدّمها إلى القارئ لا ليقرأها فقط، إنما ليتذوقها مثل نبيذٍ، وهي ما يبقى من عطر الرواية.
روح النصّ
أشير إلى أن الجملة السردية قد أثارت انتباه النقّاد منذ أن انتشرت الكتابة الروائية في الغرب، فكتب رولان بارت مقالاً بعنوان «فلوبير والجملة» 1968 ، تتبع فيه أسلوب فلوبير في كتابة جملته ومدى الجهد المادي والذهني الذي بذله لتعديل صوغها الفنّي، كما نشر لوران نونيز كتاباً عن «لغز الجمل الأولى» 2017، وانصبّ اهتمامه على تحديد علاقة الجملة الافتتاحية بمتن الرواية وبتاريخ كاتبها. غير أن ما أتغياه هنا، البحث عن الجملة التي لا ينتخبها من النص قارئٌ واحدٌ، إنما يختارها كثيرون من القراء، أينما كان موقعها من الرواية، ويتم التوافق حول بلاغتها بالبداهة القرائية وتصير عنواناً ثانياً للرواية وعلامة دالّة عليها.
وسأبحث عنها خارج الرواية ذاتها، أي عن أثرها في القارئ، ثم أعود منها إلى الرواية، لأنها ما صارت جملة الرواية إلا بسبب سكنها في قارئها، فهي إذ تتواطأ معه، تقول له ما يتمنى قوله، أو توهمه بذلك.
ذاكرة القرّاء
أين أجد جملة الرواية؟ أجدها عند الناس، في الذاكرة الجماعية لمجتمع القراءة، ويظهرها لي سياق تواصلهم إنها من الرواية الأمر الوحيد الذي يتفق حوله القراء، وقد تظهر «شاهداً» في تمارين الطلبة، أو «مثلاً» في أحاديث الشأن اليومي، أو «تناصّاً» في كتب المبدعين ومقالاتهم. ولكم أن تسألوا: ما الأمر الذي يجعل من جملةٍ عالقةٍ في صفحة من كتابٍ مركونٍ على رفّ مكتبة جملة الرواية على غرار جمل «آفة حارتنا النسيان» نجيب محفوظ: أولاد حارتنا ، و«لا تطرق الباب كل هذا الطرق، فإني لم أعد أسكن هنا» مالك حداد: سأهبك غزالة ، و«إنني جئتكم غازياً» الطيب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال ، و«كل شيء يحدث في الحمام» وحيد الطويلة: باب الليل ؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال، عبر مقترحَين متلازمَين: صوت الجملة مقاطعها ونبرها ، وصلتها بأحوال قرائها، وسأكتفي من مثيلاتها باثنتين: الأولى هي «إنني جئتكم غازياً في عقر داركم» والثانية هي «كل شيء يحدث في الحمام».
ولو سُئلت: لِمَ اخترت هاتين الجملتين؟ سأقول: لقد اختارهما القرّاء قبلي. وأضيف: ولأنّي أشعر بدبيبهما في جسدي الاجتماعي.
إنني جئتكم غازياً
تضمّنت جملة «إنّني جئتكم غازياً» تسعة مقاطع صوتية: إن/ن/ني/جئ/ت/كم/غا/ز/ين ، منها ثلاثة مقاطع قصيرة مفتوحة حرف + حركة ، ومقطعان طويلان مفتوحان حرف + حركة + مد ، وأربعة مقاطع مغلقة حرف + حركة + حرف + سكون . والبين في هذا التقطيع الصوتي، غلبة المقاطع المغلقة على باقي أنواع المقاطع، وهي غلبةٌ محيلةٌ على رغبة المتكلم في توقيع كلامه وجعله يتردد على ذهن المتلقي مثل قرعٍ حاد يذكره بقضية القول، ويؤكد له وجاهتها ويصر عليها. ومعلومٌ أنه منذ أن قال مصطفى سعيد جملته هذه وصداها ما يزال يتردّد في أرجاء جغرافيتنا العربية، كاشفاً لنا عن أنّ حال واقعنا العربي لم تتبدل منذ القرن الماضي، فنحن مستعمرون داخل دولنا المستقلة. ولئن كانت هذه الجملة حاملة لموقف نقدي من الاستعمار صورته تحول البطل من حال المستعمر الحقيقي إلى حال المستعمر التخييلي، فإنها قد وجدت في سياقنا العربي الراهن ما جعلها تتحول إلى حكاية، إلى رواية واقعيةٍ جديرة بأن تروى: رواية شعوبٍ مكلومةٍ بواقعها تذهب إلى مستعمريها طلباً للنجاة من أوطانها شعوبنا لم تقدر على احتلال أوطانها . فقد أعاد سياقنا الاجتماعي الحالي تدوير جملة مصطفى سعيد لتكون عنوان هجرتنا الاضطرارية إلى الغرب، وأصبحنا لا نكفّ لحظة عن خلق أسباب هذه الهجرة وتمجيدها، وهي هجرة يرغب فيها نبر مفتتح الجملة إنني: التأكيد وتحثّ عليها كثرة المقاطع المغلقة فيها بما توحي به من ضيقٍ وصرامةٍ، وبما تخفي من قمعٍ ، فإذا نحن، بعد تنامي ثوراتنا بكل ما فيها من إرهابٍ ومجاعات وتهجير وأوبئة، جحافل شعوبٍ تتسلل ـ مضطرة ـ إلى ما وراء البحر في قوارب الموت وأملها غزو جنة الغرب الموعودة والاستحواذ على لذائذها الموهومة، بل إننا صرنا بالقوة أحفاد مصطفى سعيد وشعب الغزاة الجدد المضطرين، وأيّ غزاةٍ هم المضطرون!
كل شيءٍ يحدث في الحمّام
«كل شيءٍ يحدث في الحمّام»، بهذا بدأ وحيد الطويلة روايته «باب الليل»، وبهذا لخّص للقارئ مغامرتها السردية، وما جاء في باقي صفحات روايته فإنما هو تفاصيل. هكذا بدا لي الأمر، وبدّلت لي هذه الجملة ـ عبر ما فيها من نظمٍ لفظي وتطويعٍ صوتي ـ جملة تفكر ببدنها: لحماً وصوتاً. إذ كان يمكن للروائي أن يكتب مثلاً: «يحدث في الحمّام كل شيءٍ» أو «يحدث كل شيءٍ في الحمّام» أو «في الحمّام يحدث كل شيء» أو «في الحمّام كل شيءٍ يحدث»، وكلها جملٌ إخباريةٌ وسليمة البناء النحوي، غير أنه كان لمصيرها أن يقف بها عند الذوبان في نصّ الرواية والدخول في النسيان بعد فعل القراءة، فلا يكون لها رنينٌ يعلق بذهن القارئ، ولا تكون من الرواية رحيقها وعلامتها كما هي حال جملة «كل شيءٍ يحدث في الحمّام» التي نفيد من تقطيعها النحوي أموراً ثلاثة متصلاً بعضها ببعضٍ: أولها إخبارنا بطبيعة المقروء بوصفه أحداثاً ستروى وتتجلّى صورة ذلك في أن عبارة «كل شيء» تنبئ بكثرة عوالمها الممكنة انفتاح المغامرة الروائية ، وتحيل عبارة «يحدث» على الشروع في تلك المغامرة والحديث عنها في الوقت ذاته، ويعين مركب «في الحمّام» وهو المرحاض مكان إنجاز تلك الأحداث. وثاني الأمور هو انصباب نبر الجملة على عبارة «كل شيء» لتصير مركز القول فيها، وكأن ما يعنيها هو تقصدها وعد القارئ بوليمة أحداثٍ، وهو وعدٌ سيتكفل متن الرواية بتحقيقه عبر سبيل مجموعة من المشاهد المتصلة باختراق القيم، والتجارة الجنسية، وفساد منظومة الأمن، واستعارات القضية الفلسطينية، ومكر السلطة. وثالث الأمور هو أنه لما كانت لفظة «شيء» تطلق، معجمياً، على كل ما يتصوّر ويخبر عنه، حسّياً كان أو معنوياً، فإن حضورها في فاتحة الجملة يثير ذهن القارئ ويهيئه لتقبل المغامرة السردية وإمكانية تخيلها، ناهيك عن أن هذه الجملة تعلن ـ من خلال المقابلة التي تقيمها بين الكثرة كل شيء والإفراد الحمّام ـ عن مدى الانضغاط الذي سيسم أمكنة السرد انغلاق باب الحمّام وضيق المقهى وظلمة الليل وينذر بتفجر الأحداث فيها.
بلاغة النظم والمعنى
ما أخلص إليه، تأكيد حقيقة أن «جملة الرواية» هي جملةٌ قريبة من بلاغة النظم قربها من بلاغة المعنى، وهي لا تبقى في الرواية وإن بقي رسمها الكتابي في إحدى صفحاتها، إنما تخرج من النصّ لتصنع لها دوائر دلالية جديدة ومناسبة لمعيش القارئ، وإذ تفعل ذلك تكتب روايتها الخاصة، لتكون لي، لتحكي لي حكايتها، إنها شخصية الرواية التي لا تموت.
وكلما استحضرتها تجدّدت فيها دماؤها، وازدادت سعتها الإيحائية، وعادت إلى ذهني لتكبر فيه، فهي إذن جملة تعيش خارج الرواية، تهرب منها لتدافع عنها من الخارج كتابتي عن مثل هذه الجمل هو شكل من أشكال دفاعها هي عن رواياتها . ولا توجد هذه الجملة في الروايات الضعيفة، جملة الرواية تحتاج إلى جينات صافية لتتخلق منها، وإنه لا يلد الجملة العظيمة إلا جسدٌ روائي عظيمٌ.
إعلاميّ تونسيّ