في عالم «جوني الماشي»

جورج كرم

في خضمّ كارثة دموية انعزالية حلّت علينا في ليلة صعبة إبان الحرب الأهلية، خلال حملة عاجلة للتبرّع بالدم، سألت الممرضة أحد المناضلين المعروف باسمه الحركي «أبو الكوارث» عن فئة دمه، فأجاب «أبو الكوارث» هذا بفخر وعفوية ظاهرتين: «جوني ووكر»، أي إسم ماركة الويسكي المشهورة ورمزها الجندي البريطاني وهو يمشي بخطى ثابتة إلى الأمام. والوجهة الأمامية للجيش البريطاني كانت وما برحت دول العالم المسالمة، بغية استعمارها واستعمال الرمز العسكري على زجاجة الكحول البريطانية. ليس من باب المصادفة أن تعزز بريطانيا موقعها في الهند وتنقذ جنودها ومستعمريها من الأمراض التي تحملها مياه الشرب ومرض الملاريا أيضاً بواسطة الكحول وشراب «التونك واتر»، أو ماء التونك الذي خلطه المستعمرون مع مشروب «الجين» الذي يحتوي على نسبة من «الكينين» أو الكينا كما يعرف في العامية، وهو يستعمل لمحاربة الملاريا. وبريطانيا التي أنقذت نفسها أيضاً في لندن القرن التاسع عشر، خاصة من الكوليرا التي حملتها مياه نهر «التيمز» باستبدال المياه بمشروب «الجين»، صدّرت أطناناً من الجعة التي طوّرتها خصيصاً لاستعمال جنودها ومستعمريها في الهند تحت إسم «API» أو «إينديا بايل إيل». قد تكون الجعة من أصل سومري والنبيذ أيضاً، لكن المشروبات الروحية في حلتها العصرية اليوم تأتي من أصل غربيّ ولا أستبعد أن يكون عرق بلادنا من أصل فرنسي تابع لمشروب «البستيس» المطابق للعرق تقريباً، ولنقل من باب الموضوعية إن العرق مشروب روحي متوسطيّ ذو أصول غير محددة.

لن أظلم «ابو الكوارث» وحده في حبه وتعلقه بمشروبات الغرب الروحية، إذ اختبرت موقفاً مماثلاً خلال زيارتي متحف الويسكي في مدينة «إدنبرة» في اسكتلندا، والزيارة تشمل جولة على تاريخ المشروب المشهور ومراحل تطوره وطريقة تصنيفه وتصنيعه. تبدأ بالترحاب بالزائرين في غرفة استقبال تشبه البار من حيث الديكور، وتقدم دليلة المتحف كأساً من الويسكي لكل زائر لدى دخوله غرفة الاستقبال، أيقنت لاحقاً أنه كان مفترضاً المحافظة على ما فيه خلال الجولة في المتحف في مراحلها كافة. وبعد الترحاب ينتقل الزائرون إلى مشاهدة عروض تلفزيونية قصيرة عن سير أشهر صانعي الويسكي وكيف طوّروا المشروب من الحبة الواحدة أو «السنغل مالت» المشهور بعراقته وطعمه المستقر المميز، إلى «البليند» الذي يتكوّن من خليط عدة أنواع من الويسكي ذات الحبة الواحدة، وهو أكثر سلاسة ويتطور مع الزمن وأنواع الويسكي الطاغية على المبيع في الأسواق العالمية جلّها من «البليند». ويبقى للمشروب الأصلي محبّوه ومحبّذوه ومتطرّفوه أيضاً وبعد العرض التاريخي والشرح المسهب عن أنواع التربة والوقود التقليدية المستعملة في عملية التقطير والتي تضفي نكهة ترابية دخانية على المشروب الأصلي، دخلنا غرفة ذات إنارة خاصة وطلب الدليل التأمل في لون المشروب تحت الضوء من خلال الكأس الزجاجية التي قدمت إلينا آنفاً، وحمل الزائرون كؤوسهم إلى الأعلى، أما أنا فلم أحمل سوى وجنتيّ الحمراوين خجلاً إذ كنت شربت الكأس قبل نصف ساعة، كيف لا وبيني وبين «جوني الماشي» ووكر خبز وملح، وصديقي «أبو الكوارث» دمه كلّه يتكوّن من الخليط اللذيذ؟ شهدت دليل المتحف إحراجي وهي فتاة فرنسية من فرنسا. لا تسألوني كيف ذلك. خاطبنتني بالفرنسية سائلة إن كنت في حاجة إلى كأس أخرى وقدّمتها إليّ مازحة، طالبة مني ألاّ أشربه بنهم مثلما فعلت مع الكأس السابقة، وأن أحافظ عليها حتى نهاية الجولة، وقد تكون جذبتها نعومة إبنتي الطفلة رفيقة سفري لسنين عديدة خلت.

كما في الحرب، كذلك في السياسة، تلعب المشروبات الروحية الغربية دوراً حاسماً، ولفتتني فاعلية إعادة افتتاح مركز حزب الكتائب في برمانا حديثاً، على ما قرأت في الصحف، وكان المركز المذكور أقفل ابوابه لسنوات عديدة بعدما وضعت الحرب اللبنانية أوزارها، ولم تعرف برمانا قط بميولها الكتائبية، لكن الحرب الطائفية كانت لها ضرورات وأحكام، ومنها افتتاح مراكز للأحزاب الطائفية عنوة وبطريقة فاشية، بمعزل عن وجود شعبية لها في القرى. وكانت الويسكي عاملاً أساسياً في شدّ العصب الكتائبي في المدينة المشهورة بحبها للمشروبات الروحية. وفيما لم يزر المركز الكتائبي أحد من أبناء القرية طوال السنة، حج كثر إلى المركز المذكور في عيد تأسيس الكتائب بعدما جذبتهم رائحة الويسكي المعروفة، وهي استراتيجية اضطر مسؤولو الحزب إلى اتباعها لحشد مؤيدي «جوني ووكر» في المركز ولو لساعات عديدة تحت عنوان «الاحتفال الحزبي»، وطوّر بعض ظرفاء البلدة جسراً جوياً برياً آنذاك بين شباك المقر الكتائبي والغابة الخلفية لسرقة عشرات الزجاجات بخفة منظمة، كوميدية جداً. أما الآن وقد أعيد افتتاح المركز الكتائبي مجدداً ولم يكن اسمي بالطبع ضمن لائحة المدعوين، لا أدري كيف طوّرت سنوات التحالف بين الكتائبية والوهابية السياسية نهج الأولى، ولعلّ الحفل خلا هذا العام من المشروبات الروحية احتراماً لمشاعر الحلفاء الوهابيين ووفاء لدفتر شيكاتهم.

من سياسة القرية وعصبياتها إلى السياسة الدولية حيث نرى المسؤولين «السكرانين» هنا وهناك يتسببون بالحروب الدولية والكوارث السياسية، ومن منا لا يتذكر الرئيس بوريس يلتسين الذي أتى إلى الحكم بعد إصلاحات البيريسترويكا في الإتحاد السوفياتي وسلم بلاده راكعة إلى الغرب والولايات المتحدة خلال عقد غارق في الفودكا الروسية حكم فيه في التسعينات. ومن السياسة المحلية إلى الدولية إلى الإرهاب بأشكاله نرى الكحول تلعب دوراً رئيسياً في القتل والذبح، ومن يظن أن «داعش» هو الذي ابتكر «موضة» قطع الرؤوس وأكل القلوب والأكباد فليبحث جيداً في تاريخنا الحديث وليعد حساباته وليسأل صاحب المقهى الصغير في بلدة بيت مري عن اليوم الذي أتت فيه إليه مجموعة من الشبان من عصابات الجميل وشمعون فشربوا العرق «على معلاق» أحد ساكني مخيم تل الزعتر المنكوب بحقدهم آنذاك، بقيادة «أمير» الإرهاب الديني الأباتي شربل قسيس. وأباتي الأمس «المسيحي» والخليفة «الداعشي المسلم» اليوم سيّان من حيث النهج والإجرام والتمثيل بجثث الأبرياء. وقد يتساءل البعض عن تأثير الكحول في النهج «الداعشي» وهو تنظيم يحرّم تناول الكحول، فإنّ محرّكي «داعش» في قطر الذين أنشأوا هذا التنظيم الوحشيّ وما انفكوا اليوم يحرّكون خيط اللعبة الدموية الإرهابية هم أيضاً من العقول المخرّبة بالكحول، وقد بدأوا بتناول زجاجات كولونيا الـ114 غير الصالحة للاستهلاك البشري لعقود قبل أن تدخل «كوكتيلات» الحانات الفخمة فنادقهم ذات النجوم الخمس اليوم.

كاتب سوري من جبل لبنان موقعه على الإنترنت www.gkaram.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى