«غارديان»: كيف انتصرت «تجارة الهيرويين» على أميركا في أفغانستان؟
يحيى أحمد محمود
نشرت صحيفة «غارديان» البريطانية، تقريراً مطولاً، يشرح علاقة زراعة الأفيون وصمود «طالبان»، بالهزيمة الأميركية في أفغانستان، بعد عقود من القتال هناك.
يقول التقرير الذي أعدّه البروفسور آلفريد ويليام ماكوي، أستاذ التاريخ في جامعة «ويسكونسن ماديسون»، إنّه بعد أنّ قاتلت الولايات المتحدة الأميركية في أطول حرب في تاريخها، فإنها تقف الآن على أعتاب الهزيمة في أفغانستان.
كيف يمكن هذا؟ كيف لأعظم قوّة عالمية أنّ تحارب بشكلٍ مستمر لأكثر من 16 سنة، ناشرة أكثر من 100 ألف جندي في ذروة الحرب، مضحية بحياة حوالى 2300 جندي، ومنفقة أكثر من تريليون دولار على عملياتها العسكرية، إضافة إلى أنّها صرفت مبلغاً تاريخياً آخر، قيمته حوالى مئة مليار دولار على «بناء الدولة»، والمساعدة في تمويل جيش قوامه ثلاثمائة وخمسين ألفاً من الأفغان الحلفاء وتدريبهم، ومع ذلك كلّه لا تكون قادرة على تهدئة واحدة من أفقر دول العالم؟
ويتضح أنّ آفاق الاستقرار في أفغانستان شديدة الضآلة، إلى حدٍّ أنّ البيت الأبيض، عام 2016، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، قد ألغى الانسحاب المخطّط لقواته، وأمر أكثر من ثمانية آلاف جندي بالبقاء في البلاد إلى أجل غير محدّد.
ويقول البروفسور ماكوي في تقريره: «إنَّ ثمة مفارقة تكمن وراء الفشل الأميركي فعتاد واشنطن العسكري الفولاذي الضخم، قد عطلت مساراته الفولاذية زهرة وردية صغيرة «خشخاش الأفيون»، ولم تنجح عمليات واشنطن العسكريّة، خلال عقودها الثلاثة في أفغانستان، إلّا عندما تأقلمت بشكلٍ معقول مع تجارة الأفيون غير المشروعة في وسط آسيا، وعانت عندما فشلت في تعويض هذه التجارة».
ويضيف كاتب التقرير أنّ أول تدخل للولايات المتحدة في أفغانستان خلال الحرب الباردة، كان عندما دعمت المسلحين المسلمين الذين كانوا يقاتلون لطرد الجيش السوفيتي الأحمر. وكان السوفيات قد احتلّوا كابول في شهر كانون الأول من عام 1979، من أجل تعزيز نظامهم بالوكالة، الآيل للسقوط.
إذ قررت واشنطن، التي كانت ما تزال تعاني جراح سقوط سايجون قبل أربعة أعوام من ذلك التاريخ، أن تعطي موسكو «فيتنام الخاصة بها» عبر دعم المقاومة الإسلامية. وهكذا فقد زودت وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» الإرهابيين، على مدى عشر سنوات، بما تقدّر قيمته بحوالى ثلاثة مليارات دولار من الأسلحة.
هذا التمويل الذي دعم، إلى جانب حصاد الأفيون الآخذ في الازدياد، المقاومة الأفغانية لعقد من الزمان، وحتى إجبار السوفيات على الانسحاب.
ويضيف «ماكوي» أنَّ أحد أسباب نجاح الاستراتيجية الأميركية، هو أنّ هذه الحرب البديلة التي أطلقتها «سي آي إيه»، لم تعطّل الطريقة التي اعتاد بها الحلفاء الأفغان استخدام تجارة الأفيون المزدهرة، لدعم كفاحهم الذي استمر عقداً من الزمان.
وقد فشلت جهود التهدئة في الحدّ من تمرّد طالبان، على الرغم من المعركة المستمرة تقريباً منذ الغزو في شهر تشرين الأول 2001، ويرجع ذلك، بشكل كبير، إلى أنَّ الولايات المتحدة بكل بساطة، لم تستطع التحكّم في الفائض المزدهر من تجارة البلاد من الهيروين. إذ قفز إنتاج الأفيون من مئة وثمانين طنّاً عام 2001، إلى أكثر من ثلاثة آلاف طن بعد عام من الغزو، وصولاً إلى أكثر من ثمانية آلاف طن بحلول عام 2007. إذ يملأ حصاد الأفيون، كل ربيع، خزائن طالبان من جديد، فيموّل المحصول الجديد أجور المقاتلين.
بحسب التقرير، فإنَّ الهيروين قد أدّى دوراً محورياً في تشكيل مصير البلاد في كل مرحلة من مراحل تاريخها المأساوي المضطرب في الأربعين سنة الأخيرة، بدءً من الحرب السريّة في الثمانينيات، والحرب الأهلية في التسعينيات، واحتلال ما بعد عام 2001. وفي واحدة من أكثر مفارقات التاريخ مرارة، فإنَّ بيئة أفغانستان المتميّزة التقت مع التكنولوجيا العسكريّة الأميركية، في تحويل هذه الأمة النائية غير الساحلية إلى دولة المخدرات الأولى في العالم. وهي دولة تهمين فيها تجارة المخدرات غير المشروعة على الاقتصاد، وتحدّد الخيارات السياسية، وتحدّد مصير التدخلات الأجنبية.
وقد ساعدت الحرب السريّة التي شنّتها «سي آي إيه» ضدّ الاحتلال السوفياتي، خلال فترة الثمانينيات، على تحويل المناطق الحدودية الأفغانية الباكستانية إلى منصة إطلاق لتجارة الهيروين.
إذ قالت وزارة الخارجية الأميركية عام 1986: «ليست هناك قوة شرطة، ولا محاكم في المنطقة القبيلة. ليس هناك ضرائب، وليس هناك سلاح غير قانوني. عادةً ما يعرض الحشيش والأفيون علناً».
بحلول ذلك الوقت، كانت عملية حشد المقاتلين لمحاربة الاحتلال السوفياتي قد بدأت منذ فترة طويلة. بدلاً من أنّ تتحالف «سي آي إيه» مع زعماء المقاومة مباشرة اعتمدت على وكالة الاستخبارات الباكستانية القوية وعملائها الأفغان، الذين سرعان ما أصبحوا لاعبين أساسيين في تجارة الأفيون المزدهرة العابرة الحدود.
ويشير التقرير إلى أنَّ «سي آي إيه» قد غضّت الطرف عن تزايد إنتاج الأفيون الأفغاني من حوالى مئة طن سنوياً في السبعينيات إلى ألفَي طن بحلول عام 1991. وفي الوقت الذي بدأت تتزايد فيه جهود «سي آي إيه»، في عامَي 1979 و1980، افتتحت شبكة من معامل الهيروين عبر الحدود الأفغانية الباكستانية، وسرعان ما أصبحت هذه المنطقة أكبر منتج للهيروين في العالم. وبحلول عام 1984، شكّلت نسبة مذهلة وصلت إلى ستين في المئة من الهيروين في السوق الأميركية، وثمانين في المئة في السوق الأوروبية. وارتفع عدد مدمني الهيروين في باكستان من عدد يقترب من الصفر عام 1979 إلى خمسة آلاف عام 1980، ثم بلغ 1.3 مليون بحلول عام 1985، وهو معدّل إدمان عالٍ، لدرجة أنَّ الأمم المتحدة وصفته بأنه «صادم على وجه الخصوص».
وبحسب تقرير لوزارة الخارجية الأميركية عام 1986، استدلّ به البرفسيور ماكوي، فإنَّ الأفيون: «محصول نموذجي في بلد مزقته الحرب إذ لا يحتاج إلى رأس مال يذكر، وهو سريع النمو، ويمكن نقله والإتجار فيه بسهولة».
وعلاوة على ذلك، فإنَّ مناخ أفغانستان ملائم لنمو الخشخاش. ولما بدأت آثار الحرب التي لا هوادة فيها، بين «سي آي إيه» ووكلاء السوفيات في الظهور، بدأ المزارعون الأفغان اليائسون في التحوّل إلى زراعة الأفيون، إذ وفّر لهم «ربحاً عالياً» كان بإمكانه تعويض الزيادة في أسعار الطعام.
في الوقت ذاته، أفادت وزارة الخارجية أنَّ عناصر من المقاومة قد لجأت إلى إنتاج الأفيون والإتجار فيه لتوفير السلع الأساسية للسكّان الواقعين تحت سيطرتهم، وتمويل مشترياتهم من الأسلحة.
ولما مالت الكفة لصالح «المجاهدين» ضدّ الإتحاد السوفياتي، وبدأ خلق مناطق محررة داخل أفغانستان في أوائل الثمانينيات، ساعدت المقاومة في تمويل عملياتها من خلال جمع الضرائب من الفلاحين الذين يزرعون خشخاش الأفيون المربح، لا سيما في وادي هلمند الخصيب. عادةً ما كانت القوافل الداخلة إلى منطقة المقاومة حاملة أسلحة «سي آي إيه»، تعود إلى باكستان محمّلة بالأفيون، وأحياناً، بحسب «نيويورك تايمز» بموافقة ضبّاط استخبارات باكستانيين أو أميركيين ممن كانوا يدعمون المقاومة.
وقد تحدث المدير السابق لعملية وكالة الاستخبارات الأميركية في أفغانستان بصراحة، لاحقاً، حول خيارات الوكالة، فقال في لقاء صحافي عام 1995: «كانت مهمتنا الأساسية إلحاق أكبر قدر ممكن من الأضرار بالسوفيات. لم تكن لدينا حقاً الموارد أو الوقت الكافيين للتحقيق في تجارة المخدرات. لا أعتقد أننا بحاجة إلى الاعتذار عن ذلك. كانت ثمة تداعيات في ما يتعلّق بالمخدرات. نعم، لكنَّ الهدف الرئيس قد أُنجز. لقد غادر السوفيات أفغانستان».
وبحسب التقرير، فإنَّ التدخل الأميركي، على المدى الطويل، قد خلق ثقباً أسود من عدد الاستقرار الجيوسياسي لن يغلق أو يلتئم أبداً. إذ لم تستطع أفغانستان أن تتعافى من الدمار غير المسبوق الذي عانت منه في سنوات التدخل الأميركي الأول.
ومع انتهاء الحرب السوفيتية الأفغانية بين عامَي 1989 و1992، تخلّى الحلف الذي كانت تقوده واشنطن عن البلاد، فلم يراعِ تسوية سلام، ولا موّل إعادة الإعمار.
وعندما ولّت واشنطن ظهرها عن أفغانستان متوجّهة إلى نقاط السياسة الخارجية الساخنة الأخرى في أفريقيا والخليج، اندلعت حرب أهلية شرسة في بلد قد عاني بالفعل، إذ مات حوالى 1.5 مليون شخص بين عامي 1979 و1989، وهو ما يشكّل حوالى عشرة في المئة من السكّان. وخلال سنوات الصراع الأهلي بيّن الكثير من أمراء الحرب جيدي التسليح الذين تركتهم «سي آي إيه» على أهبة الاستعداد للقتال على السلطة، زرع الفلاحون الأفغان المحصول الوحيد الذي كان يضمن أرباحاً فورية، «خشخاش الأفيون». وقد زاد محصول الأفيون أكثر من الضعف خلال سنوات الحرب الأهلية في التسعينيات، بعد أنّ كان قد تضاعف عشرين مرة خلال فترة الحرب السريّة في الثمانينيات.
وقال التقرير إنَّ صعود الأفيون يُفهم في ضوء الدمار الشديد الذي نتج من عقدين من الحرب، فمع عودة حوالى ثلاثة ملايين لاجئ إلى بلادهم التي خرّبتها الحرب، كانت حقول الأفيون الهبة التوظيفية المتاحة، إذ كانت تتطلّب عمالة أكثر تسع مرّات من العمالة المطلوبة لزراعة القمح، المحصول التقليدي الأساسي في البلاد. وإضافةً إلى ذلك، كان تجّار الأفيون الوحيدين القادرين على مراكمة رأس مال بسرعة كافية، مكّنتهم من تسليف مزارعي خشخاش الأفيون الفقراء، وقد كانت هذه القروض حاسمة في نجاة الكثير من القرويّين الفقراء.
في المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، منذ عام 1992 حتى عام 1994، جمع أمراء حرب لا يرحمون بين الأسلحة والخشخاش في صراع على السلطة. لاحقاً، ألقت باكستان بثقلها وراء قوة «باشتونية» حديثة الصعود أي طالبان. وقد شجّع نظام طالبان زراعة الأفيون، بعد أنّ استولى على كابول سنة 1996 وسيطر على معظم البلاد، عارضاً حماية حكومية لتجارة الصادرات، وجامعاً الضرائب التي كان في أمسّ الحاجة إليها من الأفيون المحصود، والهيروين المصنّع على حدّ سواء. وبحسب دراسات استقصائية أجرتها الأمم المتحدة عن الأفيون، فإنَّ محصول الأفيون الأفغاني كان يشكّل نسبة خمسة وسبعون في المئة من الإنتاج العالمي، خلال السنوات الثلاث الأولى من حكم طالبان.
لكن بحلول شهر تموز عام 2000، أمرت حكومة طالبان فجأة بحظر زراعة الأفيون، في محاولة واضحة للحصول على القبول العالمي، وذلك بعد أن دخل الجفاف المدمر عامه الثاني، وانتشر الجوع في البلاد. وقد كشفت دراسة لاحقة للأمم المتحدة أنَّ هذا الحظر قد قلّل الحصاد بنسبة أربع وتسعين في المئة.
بعد ثلاثة أشهر من ذلك، أرسلت طالبان وفداً إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك للمساومة على استمرار حظر البلاد للأفيون في محاولة للحصول على اعتراف دبلوماسي، لكنَّ الأمم المتحدة قررت فرض عقوبات جديدة على النظام لحمايته أسامة بن لادن، في حين كافأت الولايات المتحدة طالبان، بمساعدة إنسانية قدرها ثلاثة وأربعين مليون دولار، في الوقت الذي أيدت فيه انتقادات الأمم المتحدة حول بن لادن.
وقال وزير الخارجية الأميركي حينذاك، كولن باول، في شهر أيار 2001: «إنَّ حظر زراعة الخشخاش من قبل طالبان قرار نرحب به». لكنّه مع ذلك ألح على النظام أن ينهي دعمه الإرهاب، وانتهاكه معايير حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، لا سيما معاملتهم للنساء والفتيات.
وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية، أعادت الولايات المتحدة اكتشاف أفغانستان، بعد تجاهلها عقداً من الزمان، فبدأت بقصف البلاد، وشنّت غزواً، بدعم من القوات البريطانية، وقيادة أمراء حرب محليين. وقد انهار نظام طالبان بسرعة فاجأت الكثير من المسؤولين الحكوميين.
ويقول التقرير: إنّه بالنظر إلى الوراء يبدو من المرجّح أنَّ تحريم الأفيون كان عنصراً حاسماً في هذا الانهيار. اذ كانت أفغانستان قد كرّست، خلال عقدين من الزمان، حصة متزايدة من مواردها، كرأس المال، والأرض، والمياه، والعمالة، من أجل إنتاج الأفيون والهيروين.
وبحلول الوقت الذي حظرت فيه طالبان زراعة الأفيون، كانت زراعتها قد أصبحت شبه أحادية المحصول. وكانت تجارة المخدرات مسؤولة عن معظم العوائد الضريبية، وأكثر مدخولاتها القادمة من التصدير، ونسبة كبيرة من قوّتها العاملة.
وقال التقرير، إنَّ قرار طالبان المفاجئ بالقضاء على الأفيون كان انتحاراً اقتصادياً، دفع مجتمعاً ضعيفاً بالفعل إلى حافة الانهيار. فبحسب دراسة للأمم المتحدة، فإنَّ هذا الحظر «قد نتج منه خسارة حادّة في الدخل لحوالى 3.3 مليون نسمة»، أي حوالى خمسة عشر في المئة من السكّان. وفي هذا السياق، بحسب الأمم المتحدة، فقد أصبح من الأسهل للقوات العسكريّة الغربية أنّ تقنع النخب الريفية وسكّان الريف بالتمرّد على النظام.
وكذا فقد انهارت دفاعات طالبان بعد أقل من شهر من حملة القصف الأميركية القاتلة، المصحوبة بهجمات أرضية من أمراء الحرب المحالفين لها، لكنَّ استراتيجية الولايات المتحدة تسبّبت في زرع بذور العودة المفاجئة لطالبان، بعد أربع سنوات فحسب من ذلك.
وكانت «سي آي إيه»، قد شحنت سبعين مليون دولار نقداً إلى أفغانستان، من أجل حشد تحالف الحرب الباردة، من أمراء الحرب القبليين في التحالف الشمالي، وهم من الطاجيك الذين حاربوا السوفيات في الثمانينات ثم قاوموا حكومة طالبان في التسعينيات. وكانوا قد هيمنوا وقتاً طويلاً على تجارة المخدرات في منطقة شمال شرق أفغانستان، التي كانوا يسيطرون عليها خلال سنوات طالبان. وتحوّلت «سي آي إيه» أيضاً إلى مجموعة من أمراء الحرب الباشتون، على الحدود الباكستانية، الذين كانوا مهرّبين نشطين في الأجزاء الجنوبية الشرقية من البلاد. ونتيجة لذلك، مع انهيار طالبان، كانت الأرضية ممهدة بالفعل لعودة زراعة الأفيون وتجارة المخدرات على نطاق واسع.
وما إن تم الغستيلاء على كابول وعواصم المقاطعات، حتى تنازلت «سي آي إيه» سريعاً عن التحكّم العملياتي لقوات الحلفاء المساعدة والمسؤولين المدنيين. وفي السنوات التالية، تنازلت البرامج غير الفعّالة، لمكافحة المخدرات التي وضعتها قوات التحالف، عن الأرباح المتزايدة لتجارة الهيروين إلى أمراء الحرب أولاً، ثم إلى مقاتلي طالبان. وفي تطور غير مسبوق تاريخياً، كانت تجارة المخدرات غير المشروعة، مسؤولة عن اثنين وستنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2003.
وبحسب تقرير لـ«صحيفة نيويورك تايمز» نُشر عام 2007، واستدل به البروفسيور «ماكوي،» فإنَّ وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، في السنوات الأولى من الاحتلال، قد رفض الدلائل المتزايدة على أنَّ أموال المخدرات كانت توجّه إلى طالبان، في الوقت الذي أغمضت وكالة الاستخبارات المركزية والجيش عيونهما عن الأنشطة المتعلقة بالمخدرات التي كان يضطلع بها أمراء الحرب البارزون.
ووجّه البيت الأبيض فجأة، عام 2004، بتقرير استخباراتي يفيد بأنَّ تجارة المخدرات المتصاعدة تسهم في إعادة إحياء طالبان. وحثّ وزير الخارجية حينها، كولين بأول، على استخدام استراتيجية مكافحة مخدرات قوية في أجزاء من ريف أفغانستان، تشمل إزالة الأوراق جويّاً، بالطريقة التي كانت مستخدمة ضدّ محصول الكوكا غير المشروع في كولومبيا. لكنَّ سفير الولايات المتحدة في أفغانستان، مدعوماً من حليفه المحلي، أشرف غاني، الذي كان حينها وزيراً لمالية البلاد وأصبح الرئيس منذ عام 2014 حذّر من أنَّ تطبيق برنامج محو الأوراق سوف يعني، دون عشرين مليار دولار من المساعدات الأجنبية إلى خلق سبل عيش بديلة حقيقية، فقراً واسع النطاق في البلاد. من أجل ذلك لجأت واشنطن إلى حلّ وسط، عن طريق التعاقد مع متخصّصين مثل «داينكروب» لتدريب الفرق الأفغانية لمحو المخدرات، لكنَّ هذه الجهود، بحلول عام 2005، قد أصبحت بالفعل «نكتة»، بحسب مراسل «نيويورك تايمز».
وفي عام 2008، أفادت التقارير أنَّ متمردي طالبان قد جمعوا ما يقرب من 425 مليون دولار من الضرائب المفروضة على تجارة الأفيون، ومع كل حصاد كانوا يجمعون من التمويل ما يكفي لتجنيد فوج جديد من المقاتلين الشباب من القرى. كلّ واحد من أولئك المقاتلين كان يحصل على راتب شهري قدره ثلاثمائة دولار، وهو راتب أعلى بكثير مما كانوا سيحصلون عليه لو عملوا مزارعين.
وكذا فقد قررت واشنطن، في مواجهة التمرّد المنتشر، زيادة أربعين ألف جندي أميركي مقاتل في أفغانستان في منتصف عام 2008، ليصل عدد قوات التحالف إلى سبعين ألفاً، لكنَّ التمرد كان ينتشر، حتى أنَّ إدارة أوباما الجديدة، بحلول عام 2009، قررت زيادة القوات الأميركية إلى 102 ألف جندي في محاولة لعرقلة طالبان. وبعد شهور من زيادة القوات، بدأت الاستراتيجية التي أطلقها أوباما رسمياً قبل فجر 13 شباط 2010 في مرجا، وهي بلدة تسوّق نائية في مقاطعة هلمند. إذ هبطت مروحيات على أطراف البلدة مثيرة سحباً من الغبار، ومشى مئات من المارينز بين حقول خشخاش الأفيون ناحية مجمعات القرية. ومع أنَّ الهدف كان مقاتلي طالبان المحليين، إلّا أنّ المارينز في الحقيقة كانوا يحتلّون واحدة من عواصم تجارة الهيروين العالمية.
لكنّ استراتيجية أوباما سرعان ما تعثّرت بسبب الهجوم على المتمرّدين دون القضاء على حصاد الأفيون، الذي كان يموّل المتمرّدين الجدد كل ربيع. وفي خضم انسحاب قوات التحالف السريع للالتزام بالموعد الذي حدّده أوباما في ديسمبر 2014 لإنهاء كلّ العمليات القتالية، سمح التناقص الملحوظ في العمليات الجوية لطالبان بشنّ هجوم جماعي قتل أعداداً قياسية من قوات الجيش والشرطة الأفغانيين.
وفي هذا الوقت قال المفتش الخاص لأفغانستان، جون سوبكو، إنّه على الرغم من الإنفاق المذهل على برامج محو المخدرات الذي وصل إلى 7.6 مليار دولار خلال العقد الماضي: «لقد فشلنا بكل معيار ممكن، فالإنتاج والحصار في ارتفاع، والمنع والمحو في تناقص، والدعم المالي للتمرّد في ازدياد، والإدمان وسوء الاستخدام وصل مستويات غير مسبوقة في أفغانستان».
وفي خلال موسم قتال 2015 في أفغانستان، استولت طالبان على مبادرة القتال، وبدا أنَّ الأفيون قد صار أكثر رسوخاً في عملياتها. إذ كشفت خريطة للأمم المتحدة في شهر تشرين الأول 2015، أنَّ طالبان لديها سيطرة «عالية» أو «شديدة» على أكثر من نصف المقاطعات الريفية في البلاد.
وخلال شهر شنّت طالبان هجوماً في كل البلاد بهدف الاستيلاء على الأراضي، والإبقاء عليها. وليس من قبيل المفاجأة أنّ الهجمات الأقوى جاءت في قلب إقليم هلمند، حيث يزرع نصف محصول البلاد من الأفيون.
وبعد خمسة عشر عاماً من «تحرير» أفغانستان، عام 2016، وفي انعكاس مهم لسياسات انسحاب إدارة أوباما، شنّت واشنطن هجوماً مصغّراً مكوّناً من «مئات» من الجنود الأميركيين الجدد، على إقليم هلمند لحرمان المتمرّدين من «المكسب الاقتصادي» لأكثر حقول الخشخاش إنتاجية. وعلى الرغم من دعم القوة الجويّة الأميركية، و700 من قوات العمليات الخاصة، فقد تراجعت قوات الحكومة الأفغانية المحاصرة، في شهرَي شباط وآذار، من حيَين آخرين لتصبح طالبان مسيطرة على عشرة من أصل أربعة عشر من أحياء المدينة.
وكذا فقد أصبحت الضربات الجويّة الأميركية آخر خطوط دفاع الحكومة المرهقة التي هبطت معنوياتها. وفي اعتراف ضمني بالفشل، أنهت إدارة أوباما انسحابها المخطط له في شهر حزيران 2016، وسمحت للقوات الأميركية بالتحرّك إلى ما وراء تقديم المشورة، والانضمام إلى المعركة الفعلية، وأعلنت، بعد شهر من ذلك، أنّ ثمانية آلاف وأربعمئة جندي، سوف يبقون هناك إلى المستقبل المنظور.
أما في هلمند والمقاطعات الاستراتيجية الأخرى، فقد بدا أن الجيش الأفغاني يخسر حرباً أصبحت مدفوعة بالصراع على التحكّم في أرباح الأفيون. فبحسب «نيويورك تايمز»، فإنَّ مسؤولين حكوميين أفغان أصبحوا متورطين رسمياً في تجارة الأفيون. فقد وسّعوا منافستهم مع طالبان إلى صراع للسيطرة على تجارة المخدرات، في الوقت الذي فرضوا فيه ضريبة على المزارعين مطابقة لتلك التي تستخدمها طالبان. وتورّطت الحكومة كلّها تقريباً في هذه العملية، إذ مرر المسؤولون الإقليميون جزءً من أرباحهم غير المشروعة إلى أعلى السلسلة، وصولاً إلى المسؤولين في كابول، لضمان استمرار دعم السلطة العليا للسلطات المحلية والإبقاء على استمرار الأفيون.
وخلص التقرير إلى القول إنَّ فشل التدخّل الأميركي في أفغانستان يعرض رؤية أوسع عن محدودية قوتها العالمية، وإنَّ استمرار كل من زراعة الأفيون وتمرّد طالبان مؤشر على أنَّ السياسات التي فرضتها واشنطن على أفغانستان منذ 2001 قد وصلت إلى طريق مسدود.
وبالنسبة إلى معظم الناس في العالم فإنَّ النشاط الاقتصادي، إنتاج البضائع وتبادلها، هو نقطة الاتصال الرئيسية مع حكوماتهم، لكن عندما تكون أهم بضاعة في بلد ما غير قانونية، فإنَّ الولاءات السياسية من الطبيعي أنّ تتحوّل إلى الشبكات الاقتصادية التي تنقل هذا المنتج في أمان من الحقول إلى الأسواق العالمية، موفرةً حماية وتمويلاً وتوظيفاً في كل مرحلة.
وكما هو الحال خلال العقد والنصف الأخير، فبإمكان الولايات المتحدة أنّ تظلّ محصورة في الدائرة غير المنتهية ذاتها، فمع ذوبان الجليد من على منحدرات الجبال، وظهور نباتات الخشخاش من التربة كل ربيع، سوف تكون هناك دفعة جديدة من المراهقين المجندين، الآتين من القرى الفقيرة، والمستعدين للقتال مع المتمرّدين.
لكنَّ يرى كاتب التقرير، أنّ ثمة بدائل فاستثمار ولو جزء صغير من كل هذا التمويل العسكري المهدر على الزراعة في البلاد، من الممكن أنّ ينتج المزيد من الخيارات الاقتصادية لملايين المزارعين الذين يعتمدون على محصول الخشخاش للعمالة. إذ من الممكن إعادة بناء البساتين الخربة، وإعادة إحياء القطعان الممزّقة، وإعادة زراعة مخزونات الحبوب الضائعة، وإعادة إصلاح أنظمة الريّ التي أفسدتها الثلوج، والتي كانت يوماً ما ترعى زراعة متنوعة قبل هذه العقود الطويلة من الحرب. ولو استمر المجتمع الدولي في دفع اعتمادية البلاد على الأفيون غير القانوني عبر تنمية زراعية مستدامة، فربما إذن ستتوقف أفغانستان عن أن تكون أبرز دولة مخدرات على سطح الكوكب، وربما تنكسر دائرة العنف السنوية هذه.