«صلاح الدين» لأردوغان: هل نحن «فرنجة»؟
د. وفيق إبراهيم
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يهاجم «الفرنجة» الذين عادوا لاحتلال المنطقة من جديد كما قال، مشيراً إلى أنّ بلاده تقاتلهم، وذلك في إشارة منه إلى غزو جيوشه لأنحاء الشمال السوري التي يسكنها سوريّون من العرب والكرد.
فمَن يقصد أردوغان بهذا الوصف؟ لا سيّما أنّ الفرنجة استعمروا بلاد الشام وقسماً من مصر والعراق نحو 192 سنة متواصلة، أسّسوا خلالها دولاً استيطانيّة ضمّت عشرات الآلاف من أبناء فرنسا وألمانيا وإنكلترا ومعظم أنحاء أوروبا.
وللأمانة التاريخية وتيسير أمور التحليل بأمانة، يجب القول إنّ الدولة العثمانية تأسّست بعد قرن وأكثر من انهيار ممالك الفرنجة في الشرق، وكانت قبائل الترك في ذلك الحين لا تزال في مواطنها في آسيا الوسطى وهضاب منغوليا.
وللأمانة أيضاً، فإنّ مَن يُسمّون اليوم بالأميركيين، هم من ذوي الأصول الأوروبية الذين رحلوا إلى القارّة الأميركية قبل خمسة قرون فقط من تاريخنا المعاصر، إي إنّهم كانوا جزءاً من الفرنجة عندما كانوا لا يزالون في بلادهم الأم أوروبا.
ولا بأس استطراداً من التأكيد أنّ روسيا القيصرية لم تشكّل أبداً جزءاً من أحلاف الفرنجة، وكذلك إيران الشاهنشاهية التي كانت مستهدَفة من قِبل الفرنجة في ذلك، وكذلك العراق وأفغانستان!!
فمَن هم إذن فرنجة أردوغان؟
الجيش التركي يهاجم اليوم الكرد في عفرين، وتصريح أردوغان قيل في هذه المناسبة، فهل الكرد «فرنجة»؟
يقول التاريخ في مرحلة ما بعد الفتوحات الإسلامية، إنّ الأكراد شكّلوا في تلك المرحلة جزءاً بنيوياً من القوى العسكريّة والسياسية، مقاتلين في صفوف جيوش الدول الإسلامية المتعاقبة من بغداد إلى سور الصين، متمكّنين في مراحل لاحقة من تشكيل «دول إسلامية» قادتها من الكرد، وواحدة منها هي الدولة الأيوبيّة التي استطاع قائدها صلاح الدين الكردي إلحاق هزيمة كبيرة بالفرنجة في حطين الفلسطينية وأجلاهم عن القدس، لكنّ أولاده أعادوا تسليمها للصليبيين بعد وفاته، وكان ضرورياً انتظار المماليك الذين نجحوا في إلحاق هزائم متلاحقة بهم أدّت إلى فرارهم من آخر معاقلهم في شمال لبنان.
لذا، يمكن عبر هذا العرض التاريخي الموجز تأكيد أنّ الفرنجة هم الأوروبيون عرقاً وثقافة وسياسة، واستمرارهم موجود في الدولة الأميركية المعاصرة التي حملت الراية واستبدلت إيديولوجيا «استعادة الصليب» التي لا علاقة فعلية لها بالصليب، بل مجرّد شعارات للزوم تمرير نيات استعمارية استبدلتها بشعارات القيم والحرية وكرامة الإنسان، التي اتّضح أنّها وسائل للسيطرة الاقتصادية الأميركية على العالم.
وهكذا، يتبيّن أن ورثة الفرنجة هي المشروع الأميركي الوارث للمشروع الأوروبي الذي لا يزال يعاني من هزيمة الفرنجة في بلاد الشام قبل نحو ثمانية قرون. ألَم يقف الجنرال غورو على قبر صلاح الدين في القدس بعد الحرب العالمية الأولى ويقول له: «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
كلّ هذه المعطيات تجعل من حقّ صلاح الدين الكردي أن يسأل أردوغان التركماني: مَنْ أنت؟ وأين كنت عندما هزمنا الفرنجة؟ ألَم يكن أسلافك في ذلك الحين من أهالي تركمانستان وأوزباكستان وتلال التتر؟
هناك قراءة أخرى لهذا الموضوع الشديد الحساسية، باعتبار أنّ بإمكان معترض أن يقول إنّ صلاح الدين الأيوبي كان كردياً استولى على الدولة الفاطمية مؤسساً دولة إسلامية ليست كردية صرفة.
لذلك، يمكن مقاربة ما يجري بقراءة دقيقة للتحالفات، فتركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي منذ خمسة عقود على الأقل الناتو . ويضمّ هذا الحلف الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وكندا وأستراليا، و«إسرائيل»، إنّما بعضوية غير كاملة.
أمّا دور تركيا في الناتو، فكان قطعاً للطريق أمام تقدّم السوفيات نحو «الشرق الأوسط، جعل الطريق البحرية من سلسلة بحار أزوف والأسود ومرمرة وإيجة والمتوسط، سالكة للروس، إنّما تحت المراقبة الأميركية التركية. وكان للترك أيضاً دور في عرقلة التقدّم الروسي السياسي نحو المنطقة، مؤدّين دوراً في التحالف مع كلّ القوى «الشرق أوسطية» التي كانت متحالفة مع الأميركيين، مثل إيران وعراق حلف بغداد والخليج… عدوّهم الوحيد في المنطقة كان الرئيس جمال عبد الناصر، الذي حارب النفوذ الأميركي في العالم العربي.
كان لا بدّ من هذه المقاربة لطرح السؤال التالي: هل حلفاء أردوغان في حلف شمال الأطلسي هم أعداء للفرنجة؟
فإذا كانوا على هذا النحو، فيكون عندها هجوم الجيش التركي على شمال سورية منسجماً مع تصريحات أردوغان.
لكن ما يحدث هو مخالف لأبسط أنواع المنطق، لأنّ الأميركيين والأوروبيين هم أحفاد الفرنجة على المستويين العرقي والسياسي، وبالتالي الاستراتيجي. وهم الذين يهاجمون سورية مباشرة وبواسطة أدواتهم ويحتلون العراق، مشاركين في تدمير اليمن وتونس وليبيا والسودان، وهم الذين يدفعون مصر نحو الاضطرابات الأمنية والسياسية، ويديرون سيرك القتل في الصومال ونيجيريا والفيلبين وميانمار، مشجّعين في كلّ مكان من العالم على الاقتتال الطائفي والعرقي كأفضل وسيلة لسيطرتهم على العالم من دون مقاومة كبيرة.
لن ننسى هنا «إسرائيل» وكيف وُلدت بوعد بريطاني سهّل أمر انتقال اليهود من شتّى أصقاع الأرض إلى فلسطين المحتلة، ودعمها لإنشاء دولة تطوّرت عسكرياً ونووياً فرنسا واقتصادياً بالمعونات الأوروبية، واستقرّت دولة ذات إمكانات كبيرة بالرعاية الأميركية.
ولم تخرج دولة أردوغان التركية عن سياسات الناتو «الأميركي الفرنجي». اعترف بـ «إسرائيل»، وأقامت معها علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية، وبالتالي استراتيجية تقوم على دعم تركيا لـ«إسرائيل»، إنما في مواجهة مَن؟ العرب أم الفرنجة؟
وبالطبع في مواجهة العرب، وخصوصاً قلبها السوري العراقي الذي تريد تركيا دائماً إضعافه، لأنّه يجسّد بلدين مجاورين لها يستحيل الإمساك بهما إذا تهاوت «إسرائيل». تريد هذه المعطيات تأكيد مدى استخفاف أردوغان بالذاكرة العربية، اعتقاداً منه بأنها لم تعد تميّز بين العدوّ التاريخي والصديق، واحتقاراً منه أيضاً للكرد الذين يصفهم بالفرنجة، وهو يقصد بلا أدنى شكّ الأميركيين المساندين والداعمين لفكرة الإقليم الكردي.
هناك مقاربة ثالثة، يمكن عرضها إذا ما تبيّن أنّ أردوغان يقصد بـ «الفرنجة» الأميركيين، لأنّه كان منذ بداية الأحداث في المنطقة العربية حليفاً لهم في دعم الإرهاب، وخصوصاً في سورية والعراق، ولعبت بلاده دوراً في استقبال مئات آلاف الإرهابيين من شتّى أصقاع الأرض، سهّلت لهم شؤون التدريب والانتقال الحدودي وتأمين خطوط دائمة للتموين والتذخير وبيع النفط والمعامل المسروقة وديّات الرهائن وبيع النساء الجواري.
إنّ هذه المعطيات تكشف أنّ تركيا أردوغان جزء أساسي من الفرنجة الجدد، لكنّه استاء منهم مؤخّراً لأنهم يستعملون ورقة كرديّة يخشى أن يصيبه أذىً منها على وحدة بلاده، وهو يستشعر أيضاً أنّ الفرنجة الجدد لا يحسبون حصّته في مرحلة تصفية الأزمات. وبذلك يتّضح أنّ تركيا المعاصرة هي جزء من الهجوم المتجدّد للفرنجة على بلاد الشام والعراق، ما يؤكّد أنّه ليس استعماراً دينياً، كما يروّج أردوغان، بقدر ما يجسّد مشروعاً للاستعمار الجديد عبر ضرب الدول الوطنية وتفتيتها على نحو يرضي ثلاثة أطراف: الأميركيين أصحاب الأحادية العالمية التي يصرّون عليها، و«إسرائيل» التي يناسبها وجود كيانات عربية مفتّتة، وتركيا التي تحلم بإعادة بعث دولة عثمانية إخوانية مقابل سناجق وإيالات مرتبطة بـ «الباب العالي».
لذلك لن يستغرب أحد إذا ما انتفض صلاح الدين من مثواه ليسأل أردوغان عن هويّته ومن أين أتى، باعتبار أنّ التركمان كانوا في ذلك الزمن لا يزالون في مناطقهم الأصلية قبل استقدامهم إلى سورية والعراق من قِبل الدولة العباسية.
الكرد إذن ليسوا فرنجة، لكنّ بعض قياداتهم يؤدّون دوراً في خدمة المشروع الأميركي، وكذلك حال الترك الذين ترتبط دولتهم بمشروع الفرنجة منذ ثلاثينيات القرن الماضي… أفلا يحق لصلاح الدين أن يثور في قبره محتجّاً على سياسات القيادات التركية والكردية في آن معاً، العاملين في سبيل مصلحة الفرنجة الجدد؟
ويجوز له أن يسأل أردوغان: مَن أنت؟!