ملحم: غايتنا الواضحة أن نشقّ طريق الحرّية والحياة لأمّتنا العظيمة الجديرة بالخلود كرم: أفلح المؤلّف عبر أناقته وأسلوبه الأدبيّ الرفيع بحملنا إلى رؤية أوضح وأعمق لسيرة سعاده مراد: الكتاب مرجع ووثيقة تاريخية تُحْيي الذاكرة وتعزّز النظرة إلى الوحدة بأشكالها كافّة الساحلي: فلسفة سعاده اجتماعية إنسانية تستند إلى الحقيقة الواضحة والواقعية
نظمت منفذية سيدني في الحزب السوري القومي الاجتماعي، حفل توقيع لكتاب عضو المجلس القومي الدكتور إدمون ملحم «الحبّ السوريّ المدرحي»، وذلك في مكتب المنفذية بحضور المندوب السياسي للحزب في أستراليا عادل موسى، منفذ عام سيدني جورج يزبك، وعضوي المجلس القومي أحمد الأيوبي وحسن الزغبي.
كما حضر حفل التوقيع ممثلون عن تيار المردة وعن أحزاب وقوى وجمعيات، الأب افرام عباسي، والكتاب والإعلاميون بدوي الحاج، سركيس كرم، عباس مراد، وفاعليات ثقافية وتربوية واجتماعية وجمع من القوميين والمهتمين.
الساحلي
استُهلّ الحفل بالنشيد الوطني الأسترالي ونشيد الحزب، ثم كلمة ترحيب وتعريف من ناظر الإذاعة والإعلام شادي الساحلي جاء فيها: ها نحن اليوم في سيدني نجدّد معرفتنا في سعاده ونجدّد حبّنا المدرحيّ لسورية من خلال كتاب الأمين إدمون ملحم الذي يؤكّد نضارة نصوص أنطون سعاده، ويضيء على مكانتها الرفيعة التي لم تكتشفها الأجيال الجديدة من شباب الأمة.
المدرحية هي النظرة الفلسفية التي جاء بها مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي المعلّم أنطون سعاده، وبها يفسّر الوجود الإنساني الاجتماعي ويعلله، وحركة التطوّر وحركة التاريخ والإبداع، وبها يشرح تطوّر العلم والعقل والفنّ والوجود الإنساني.
وأكد أنّ فلسفة سعاده هي فلسفة اجتماعية إنسانية، لا تستند إلى الغيب ولا إلى الأساطير والخرافات، بل تستند إلى الحقيقة الواضحة والواقعية النابعة من العقل والمنطق والمعرفة ومستندة إلى الوقائع والأحداث، حيث كان تركيزه على إدراك الفرد ووعي المجتمع وإرادة الأمة التي آمن أنها لا ترد، حيث قال: «لم آتِكم مؤمناً بالخوارق والمعجزات، بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم. أتيتكم مؤمناً بأنكم أمة عظيمة المواهب، جديرة بالخلود والمجد».
وشدّد الساحلي على أنّ هذا الكتاب «الحبّ السوريّ المدرحيّ» يعبّر عن قصة عشق قديمة عمرها من عمر التاريخ، بين أبناء حياة أحرار وبين أرض عزيزة. بين أدباء ومفكّرين وبين رجال ناهضين. بين كتاب وفكر ومدرحية وبين أكتاف رجولة وبندقية. بين شعراء ومعلّمين ومقاومين أبطال ونسور شامخين. بين شهداء يرتقون إلى العُلا لتحيا سورية وبين أجيال تولد ويولد بها ومعها سعاده من جديد. بينهم وبين أمة أصبحت في وجدانهم قدراً لا يردّ ونموذجاً لانتصار سعاده زعيماً وقائداً ومعلّماً وهادياً وفيلسوفاً وشخصية نادرة عابرة للأزمان.
إن كاتب «الحبّ السوريّ المدرحيّ» نذر نفسه عملاً بمقولة سعاده «إن كلّ ما فينا هو من الأمة وكلّ ما فينا هو للأمة…»، فجعل الأمين إدمون ملحم فكره وقلمه نبراساً للتعبير عن عقيدة سعاده ونشرها، عقيدة طبعت حياته بمفاهيمها وروت نفسه بفلسفتها وجعلت منه ـ على رغم تواضعه ـ صخرة متينة من صخور النهضة، وسنديانة شامخة من سنديانات الأمة بها نعتّز ونفتخر.
وركّز الساحلي على أنّ هذا الكاتب يعبّر عن الأمة السورية الناهضة رغم كلّ الجراح التي حلّت بها، لأنه يصرخ بِاسمها أنّى حلّ. هو صوت من أصوات النهضة الجبّارة، لم يزل يعتني على طريقته ببناء الإنسان الجديد المسؤول والمتسلّح بالمعرفة الفاضلة والمناقب السامية لحمل رسالة النهضة وبناء المجتمع الجديد.
كرم
وتكلّم في الحفل الكاتب والإعلاميّ سركيس كرم مذكّراً بمشاركته السابقة في مناقشة الكتاب الأول للأمين إدمون ملحم باللغة الإنكليزية «أنطون سعاده: فيلسوف قومي» وقال: لا بدّ لي من الاعتراف مرّة ثانية بأنّ كتاب إدمون ملحم أعطاني آنذاك فرصة، لا للتعرف إلى فكر أنطون سعاده وحسب، إنما لاكتشاف الكثير من بُعده الفلسفي وإلقاء نظرة شاملة على سيرته بمنظار مختلف عن السابق.
هكذا تعرّفت إلى سعاده الكاتب والمفكّر، وصاحب الرؤيا، والمدافع عن القيم الأخلاقية الذي شكّلت العلمانية عاملاً رئيساً في إيديولوجيته.
واليوم، أستطيع القول إنّ إدمون ملحم حملني بأسلوبه الراقي إلى غور أسبار المزيد من الدوافع التي تجعل الالتزام لدى الأخوة في الحزب القومي أعمق بكثير من مجرد ممارسة حزبية روتينة ظرفية صوَرية. فمن خلال مجموعة مقالات ودراسات وأبحاث يحفل بها كتابه الجديد «الحبّ السوريّ المدرحيّ» دوّنها بأسلوب أدبيّ عذب، نقرأ الكثير من فلسفة أنطون سعاده المبنيّة على ركائز الولاء والحبّ والعدالة والإنسانية. وهو القائل: «فسعاده فيلسوف اجتماعي عميق الفهم والاطّلاع ومشابه لكبار فلاسفة الإغريق وحكمائهم». ص25 .
فمن مقالة إلى أخرى، ومن بحث إلى آخر، نعثر على أدلّة يسردها الكاتب من ضمن سياق قناعاته الراسخة. أدلّة تقودنا إلى رحلة علمية شيّقة تبغي إيصالنا إلى ملامسة جوهر العقيدة المدرحية الجديدة التي تتناول أشكالاً مختلفة تعني المجتمع في مختلف مكوّناته. وتُبرز بالتالي إرادة حديدية تدرك الهدف وتتمتع بالعزم والتفاؤل وتنعش الآمال متسلّحة بطموح غير محدود.
ويسلّط الكاتب الضوء على هدف سعادة من إنشاء الحزب القومي العقائديّ الذي يحمل راية القضية التي تعني الجميع، والذي لا يرفع شعارات رنّانة جامدة لا حياة فيها. فالحزب عنده هو بمثابة آليّة عمل حيّة تتبنّى المبادئ والقيم وتسعى إلى تحقيق الأهداف لخدمة المجتمع. لا آليّة تكون الغاية منها المساومات السياسية الفردية الضيّقة والآنية. وهذا يتجلّى في الصفحة 40 من الكتاب «…هذه المبادئ ليست خطّة سياسية يمكن العمل بها أو التخلّي عنها، وهي ليست أفكاراً مجرّدة أو صوَراً جميلة على الورق، بل قوة فاعلة في الحياة».
ويتناول الكاتب موضوع إلغاء الطائفية بما تمثله من عائق أمام التوصّل إلى تمهيد الطريق لبلوغ الدولة العصرية التي تكرّس المواطَنة حيث يتمتّع كلّ مواطن بحقوقه ويلتزم بما عليه من واجبات خارج إطار المحسوبيات والولاء الشخصي لقيادات ما همّها سوى توظيف العصبية الطائفية بغية تعزيز مواقعها والاستفادة منها إلى أقصى الحدود على حساب الدولة العادلة القادرة.
وعليه، يشدّد الدكتور ملحم في الصفحة 53 قائلاً: «إن إلغاء الطائفية وبترها من حياتنا السبيل الوحيد لبناء الدولة العصرية المدنية، الدولة الديمقراطية التي تساوي بين كلّ المواطنين في الحقوق والواجبات».
أما في ما يتعلق بالمعركة المصيرية مع العدوّ فيحرص الكاتب على الجزم في الصفحة 90 بأنّ «معركتنا المصيرية مع العدوّ تمتد إلى كلّ المغتربات وتشمل كلّ الجبهات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية». وهو هنا يضع النقاط على الحروف مرّة أخرى، كونه يدرك أنّ المواجهة لن تحقّق ما نصبو إليه إلّا من خلال اعتماد كافة الوسائل التي تنقذ الأمّة من الرواسب السلبية التي أنتجها تخاذل قادتها وانهزاميتهم. ومن أبرز تلك الوسائل يأتي الإعلام الذي يمكن توظيفه في توجيه الرأي العام العالمي نحو دعم القضايا العربية المحقّة. غير أنه من المؤسف أن ما يجري في العالم العربي اليوم لا يدلّ إلّا على تردّي الأساليب العشوائية وتفاقم الحالات التآمرية الرامية إلى طمس الحقائق وإضعاف الإرادة وإسكات الأصوات المحقّة وتكبيل الأحرار.
وفي الصفحة 123، يُبرز ملحم تعلّق سعاده بالأدب وإدراكه أهميته البالغة في تفعيل النهضة وتشجيع الفكر الخلّاق بما يشكّله ذلك من انتفاضة حضارية على الرتابة والخنوع والكسل في تبنّي الدفاع عن القضايا المصيرية، فيقول: «اهتمّ سعاده بالأدب لأنّ الأدب يشكّل إحدى ركائز النهضة القومية».
من هنا، يلفت الكاتب كذلك إلى مواصلة العمل الدؤوب الساعي إلى تطوير العقلية الوجدانية التي تلتزم بما يعني الأمة ويؤثر على نهضتها وتقدّمها ومصلحتها العليا، فنجده في الصفحة 172 يصرّ على «أنّ عملية التأسيس مستمرّة لأنها ترمي إلى تأسيس عقلية اخلاقية جديدة، عقلية الوجدان القومي التي تدفع بالأفراد إلى الارتباط بقضية الوطن والأمة واعتبار مصلحتهما فوق أيّ مصلحة أخرى». وكم عانت عملية التأسيس على مختلف الأصعدة وما زالت نظراً إلى ضخامة الحواجز والعوائق والمطبات الموضوعة أمامها.
وعن وحدة الأمة وانعكاساتها الإيجابية العارمة على تحقيق النهضة الفكرية والمؤسساتية والإنسانية، يشدّد ملحم في الصفحة 204 على «…جمع شمل الأمة لينهض بها من واقع انقساماتها إلى واقع الحياة الجديدة، حياة العزّ والتقدّم والفلاح».
وأضاف كرم: في «الحبّ السوريّ المدرحيّ» أفلح الدكتور إدمون ملحم إلى حدّ بعيد عبر أناقته وأسلوبه الأدبيّ الرفيع وقناعته الراسخة، بحملنا إلى رؤية أوضح وأعمق وأكثر شمولية لسيرة أنطون سعاده الذي آمن بقيم إنسانية سامية وبذل نفسه في سبيلها.
وأنهى كرم كلمته قائلاً: ختاماً، أختار هذا القول الرائع من الصفحة 350 وهو من صلب الفكر الرائد الذي حمله ونشره أنطون سعاده، يقول فيه: «المجتمع معرفة والمعرفة قوّة». فالمعرفة هي الشعلة التي تنير درب التحرّر، وتزيل عتمة الجهل، وتلغي مفاعيل الكراهية والتعصّب الأعمى. وكم كانت أمتنا لتقوى وتزدهر لو أنها اعتمدت الحدود الدنيا من متطلّبات الوحدة والعلمانية والمؤسساتية والعطاء الأدبيّ، والتضامن الإنسانيّ، والرقيّ الأخلاقيّ.
مراد
ثمّ ألقى الكاتب والإعلاميّ عباس مراد كلمة جاء فيها: يحدّد الدكتور إدمون ملحم اتجاه البوصلة ولا وهم عنده ولا وهن، حيث فكر سعاده وسورية الطبيعية وسلامة أرضها ووحدتها ورقيّ أبنائها ورفعتهم، هي الأسس التي نبني عليها لمستقبل أكثر إشراقاً.
يقف الدكتور ملحم على أرض عقائدية قومية اجتماعية صلبة، زرع بذورها ورعاها الزعيم أنطون سعاده منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932 وقبله، حتى استشهاده غيلة على يد القوى الرجعية العربية في 8 تموز عام 1949، لأنهم أدركوا أنّ صاحب هذا الفكر ومشروعه القومي يشكّلان خطراً على مصالحهم المرتبطة بأعداء الأمة وشعبها.
يحدّد الدكتور ملحم أعداء الأمة وخصومها، عارضاً للتحدّيات الوجودية، ومنابع القوّة ومَواطن الضعف، يضع الخطط، يقترح الحلول معتمداً قواعد علمية عدّتها الفكر، العقيدة، الثقافة، الأدب، السياسة والاقتصاد، الحلول المرتكزة على المقوّمات الحضارية لهذه الأمة، ولا يستثني ملحم المقيمين ولا المغتربين، فلكلّ منهم دوره في الصراع الوجودي مع عدوّ الأمة المسلح بأساطير تلمودية توراتية مزيّفة أرض الميعاد، أو أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ويلحّ ملحم على مواجهة تلك الأساطير، وكيفية المواجهة التي يحدّدها في الخطة القومية وفي المشروع القومي الطبيعي ص72 وكنوز أساطيرانا الثمينة، كجلجامش وبعل وقدموس وتمّوز وأدونيس ص95 ويحذّر ملحم من السلم «الإسرائيلي»، خطره وكيفية مواجهته ص101 . ويقول: «نحن جماعة تعشق الصراع لأنها تحبّ الحياة والحرّية وترفض العيش الذليل». ص224 . ويحذّر من مثالب النزعة الفردية والتي يشدّد سعاده على مكافحتها كمكافحة الاحتلال الأجنبي ص157 هذه النزعة التي تضبط بالوجدان القومي.
من وسط ركام الانهيارات الكبرى سياساً، اجتماعياً، فنّياً، ثقافياً، واقتصادياً يطلّ علينا الدكتور إدمون ملحم ليضيء الدرب ويفتح كوّة لإعادة ترتيب الوضع حتى لا نبقى جسداً بلا روح، مستلهماً أخلاق سعاده الذي قال: «إذا كنتم ضعفاء وقيتكم بجسدي وإن كنتم جبناء أقصيتكم عنّي وإن كنتم أقوياء سرت بكم إلى النصر». ص337 . وهذا ما كان عليه سعاده في ممارسته الحياتية حيث لم يطلب من أبناء عقيدته شيئاً إلّا وفرضه على نفسه، لا بلّ تقدّمهم ص197 بهذا التفكير الواضح من أجل حياة أرقى وأفضل وأجمل ص318 . وكما يقول الدكتور ملحم إن عملية التأسيس التي بدأها سعاده مستمرّة لأن غايتها تأسيس فكرة الأمة في عقول أبناء الشعب لتكون القاعدة الثابتة التي على أساسها يُبنى أيّ عمل قوميّ نهضويّ. ص171 .
هذه هي المدرحية، الدعوة الحقيقة إلى بناء مجتمع أمثل خالٍ من التعسّف والتعنّت العرقيّ والفساد الأخلاقيّ وكلّ أشكال التفرقة والانقسامات الاجتماعية، وهذا ما يؤكّده سعاده حين يقول: «متى وجد الإنسان الحبّ فقد وجد أساس الحياة والقوّة التي ينتصر بها على كلّ عدوّ». ص274-275 .
وختم الإعلامي مراد: إن الكتاب يستحقّ القراءة لأنه مرجع ووثيقة تاريخية قوميّة مهمة، وعمل إيحائي يُحْيي الذاكرة وينافح عن الهوية القومية، ويعزّز النظرة إلى الوحدة الثقافية، الاجتماعية، السياسية، الجغرافية والاقتصادية ويدخل في باب الدراسات المستقبلية.
ملحم
وفي كلمته، رحّب الدكتور إدمون ملحم بالحاضرين وقال: بكلّ صراحة أقول إنّي فخور بهذا الكتاب، بمضمونه وبعنوانه، لأنه يختصر حكاية عشق كبير لنهضة الحياة الجديدة، لقضيةٍ كلّية شاملة هي الهاجس والهمّ الأساس وهي المحور والمنطلق، قضية حيّة، واضحة، وضع أسسها معلّم الأمة وزعيمها الخالد وتعاقد من أجلها عشرات الألوف من الشعب لإيمانهم بأنها قضية مقدّسة تساوي وجودهم، من أجلها يقفون معاً ويسقطون كلّهم معاً.
وحكاية العشق هذه تعني أمرين: تعني أوّلاً، العشق لأمّة العطاء والثقافة والعقل والإبداع التي أعطت العالم العطاءات الحضارية السخية من دون حساب… أمةٍ وزّعت من أبجديتها ومعارفها ومآثرها وأعطت أعظم الرسالات والشرائع والفلسفات وأنجبت العبقريات الخلّاقة والحكماء والمفكّرين والقادة التاريخيين والعظماء الخالدين. أمة هي مهد الحضارات وهادية للأمم. وتعني ثانياً، العشق لوطن الجمال، لتلك البيئة الطبيعية الفريدة التي تتحلّى بالخصب في سهولها وأنهارها وأوديتها وبروعة إقليمها وتنوّعه وبجمال سفوحها وهضابها. هذه البيئة الجغرافية المتماسكة والمتميّزة بوحدتها وبغنى إمكانياتها ومواردها الطبيعية كانت دوماً مهبطاً للوحي والرسالات السماوية. لذلك تغنّى بها الشعراء وكتب عنها الأدباء وجاهد من أجلها روّاد النهضة والمفكّرون ووُضعت المؤلّفات عن تاريخها وأمجادها من قبل المؤرّخين والمستشرقين، وذُكرت في الكتاب المقدّس مرّات عدّة مثلما ورد في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى الذي روى أنّ السيّد المسيح كان يعلّم ويبشر ويشفي المرضى. فذاع صيته في سورية كلّها.
والحقّ أقول إنّ الفضل الكبير لهذا العشق الكبير ولهذا الارتباط بقضية الأمة والوطن يعود إلى العقيدة القومية الاجتماعية المناقبية التي غرست في نفوسنا حباً عظيماً للإنسان والأرص والحياة، وزوّدتنا بثقافة جديدة هي ثقافة الصراع من أجل الحرّية وتحقيق الحياة العزيزة والهانئة. لذلك نحن نعمل لوحدة المجتمع وسلمه الأهلي، للأخاء القومي وللألفة والتسامح والوئام، ونعمل بخطط التفكير الجديد لفرح الناس وخيرهم، لمستقبل الأجيال الصاعدة، لمجد الوطن ولنهوض الأمّة من قبر التاريخ، لتكون لها حياة العزّ والرقيّ والفلاح.
والفضل الكبير لحكاية العشق يعود إلى هذه العقيدة الأخلاقية المعبّرة عن حقيقة الأمة وتطلّعاتها والتي ولّدت في نفوسنا إيماناً كبيراً ننطلق به لنضيء ظلام الأمة بقناديل الأمل والحبّ والرجاء، وبمشاعل الفكر والمعرفة والنور الوهّاج. فالمعرفة قوة منتصرة وتقدّم وحياة، أما الجهل فلا يعني إلا الضعف والتفكّك والاندثار. وبإيماننا الراسخ بالتعاليم الجديدة نسير على دروب العطاء والصراع لننثر بذور الأخاء والمحبّة القومية الصافية بين أبناء شعبنا، لأننا نؤمن أنّ المحبة الصادقة هي منبع الخير والقوّة والأخلاق وهي مصدر السلام والطمأنينة والتعاون الصادق في المجتمع، وبوجودها تنتفي الأحقاد والكراهية والضغينة والشرور. لذلك يقول سعاده: «إذا وجدت المحبة الصافية في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً».
«الحبّ السوريّ المدرحيّ» هو التعبير الأصفى والأجمل عن هذا العشق الكبير وعن جوهر العقيدة القومية الاجتماعية التي يعرّفها سعاده بالفلسفة العميقة. الفلسفة المدرحية الأصيلة التي تدعونا إلى الإيمان المطلق بحقيقتنا الجميلة وإنسانيتنا النبيلة وبنفوسنا الخيّرة التي تسكن فيها المحبّة والتي تكتنز، كما يؤكد المعلّم، كلّ علمٍ وكلّ فلسفةٍ وكلّ فنٍّ في العالم. هذه الفلسفة المعبّرة عن روحية الأمة وعن تراثها الثقافي والتي تقدّم رؤية حضارية إنسانية جديدة لإنقاذ العالم من تخبّطه، و«لإعادة النبوغ السوريّ إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنسانيّ وترقيته». هذه الفلسفة الوجودية لها نظرتها الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ وإلى الحبّ الحقيقيّ الذي به وحده يحيا الإنسان. فهي لا ترى الحبّ خدوداً ونهوداً وقدوداً ومجرّد تعبير عن شهوات الجسد والعقل الغريزيّ، بل تراه شأناً روحياً سامياً معبّراً عن اتحاد نفوسٍ جميلة مستعدّةٍ لأن تتحمّل المشقّات الهائلة في سبيل تحقيق مطالبها العليا. وهي تراه حبّاً متسامياً «إذا قرّب فماً إلى فم سكب نفساً في نفس، وكلّ واحدة تقول للأخرى: إني معك في النصر والاستشهاد».
عقيدتنا القومية الاجتماعية شحنت نفوسنا بالمثل العليا وبالعنفوان والتحدّي والإقدام وزرعت فيها الوجدان القومي الأصيل الذي يولّد فينا محبّة الوطن ويدفعنا إلىالعطاء والتضحية والفداء وإلى الصراع الدائم لتحقيق الحياة الجميلة الشريفة التي نصبو إليها والتي لا نجدها خليقة بأن نحياها إلا إذا كانت حياة حرّية وحياة عزّ وحياة جمال وشرف وكرامة.
وباختصار، أقول: إن العقيدة القومية الاجتماعية غرست في نفوسنا العزم والأمل والإيمان، ونوّرت عقولنا بالمعرفة الصحيحة وبثقافة الخير والحقّ والعدل والجمال، ودفعتنا إلى العطاء والعمل والإنتاج، وراهنت على المحبّة وكلّ الفضائل النبيلة المتأصّلة في نفوسنا الجميلة وعلى مواهبنا في الخلق والسموّ والإبداع. وشحنتنا بالطموحات العالية وبفيض كبير من الحبّ لشعبنا كلّه، لوطننا بربوعه وأجزائه كلّها. هذا الوطن الذي شوّهوا جباله الشامخة وسمّموا هواءه الصافي ولوّثوا بيئته الجميلة ودنّسوا مقدّساته المباركة ودمّروا مَرافقه وآثاره وسرقوا كنوزه الغنيّة وشلّعوه إلى كياناتٍ وكانتوناتٍ وأجزاءٍ سُلبت واغتُصبت وصُهينت. هذا الوطن الجريح لا يمكننا أن نستعيده وطناً موحّد الأجزاء ولا يمكننا أن نبنيه وطناً للخير والجمال والإبداع، إلّا بهذا الحبّ العظيم الذي نتسلّح به ونسير بإرادةٍ واعيةٍ وعزيمةٍ صادقةٍ لخوض معركة الحياة صراعاً وعطاءً واستشهاداً. لذلك يقول سعاده: «متى وجد الإنسان الحبّ فقد وجد أساس الحياة والقوّة التي ينتصر بها على كلّ عدوٍّ».
هذا هو الحبّ السوريّ المدرحيّ الكامن في جوهر المناقب القومية الصافية والمعبَّر عن معدنها الأصيل. إنه حبّ النفوس الجميلة المؤمنة التي تشترك في فهم جمال الحياة. إنه حبّ النفوس المصمّمة على الوقوف معاً في تحقيق غاياتها ومطالبها العليا في الحياة. إنه حبّ الأرض والمجتمع والإنسان، حبّ الشرف والكرامة والحياة. حبّ العطاء والتضحية حتّى الفداء. حبّ العزّة والكرامة والحياة الحرّة الشريفة، حبّ البطولة والموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة.
وبهذا الحبّ المدرحيّ الذي يملأ نفوسنا صدقاً وإخلاصاً ووفاء. نحن حركة صراع لا تعرف الجمود ونحن حركة قتال لأعداء الأمة الطامعين. وغايتنا الواضحة أن نشق طريقّ الحرّية والحياة لأمّتنا العظيمة الجديرة بالخلود والمجد، وأن نبني وطناً حرّاً جميلاً ننعم فيه بالنور والدفء والخير والبحبوحة والجمال.