الباحث عن السكينة والحرّية لم ينتظر من الحياة شيئاً وودّ لو ينسى ويغفو
احتفلت روسيا في الخامس عشر من الجاري بالذكرى المئتين لميلاد الشاعر والكاتب الروسي العظيم ميخائيل ليرمونتوف، ولهذه المناسبة وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إكليلاً من الزهر على قبر الشاعر، إثر قدومه بطائرة مروحية إلى موطن ليرمونتوف، عزبة «تارخاني» في محافظة بينزا الروسية، وأمضى الرئيس الروسي ساعتين في «تارخاني» حيث ولد الشاعر. وتحدثت مديرة متحف ليرمونتوف في العزبة، تامارا ميلنيكوفا تتولى إدارة المتحف منذ 36 عاماً إلى الرئيس بوتين عن إبداع الشاعر وظروف موته المأسوي، إذ لقي مصرعه في مبارزة وكان في السادسة والعشرين من عمره. واهتم بوتين بتفاصيل خدمة ميخائيل ليرمونتوف في الجيش الروسي آنذاك، وأوضحت ميلنيكوفا أن ليرمونتوف كان ضابطاً شجاعاً، وشارك شخصياً في المعارك التي خاضها الجيش الروسي في القوقاز في القرن التاسع عشر. ثم اطلع بوتين على غرف العزبة حيث أمضى الشاعر أعوام طفولته، وتجوّل في ضواحي العزبة وبساتينها وبحيراتها وتمتّع بمناظرها الخلابة.
نبذة عن ليرمونتوف
ميخائيل ليرمونتوف شاعر روسي عظيم، عالماً أنه كتب رواية «بطل من هذا الزمان» المشهورة وعدداً من المسرحيات، وذاع صيته كشاعر رومانسي ومؤلف للقصائد الحزينة التي تقترن فيها مشاعر الاكتئاب والغربة والعزلة.
ولد ميخائيل ليرمونتوف في 3 تشرين الأول عام 1814 في موسكو، وكان يشهد منذ أيام الطفولة خلافات مستمرّة بين جدته ووالده. وتوفت أمه باكراً، ما ترك أثراً عميقاً في نفس لومنتوف الفتى وساعد في تشكيل طبيعته التي اتصفت بالحساسية المفرطة والميل الى العزلة والأحلام، وانعكس ذلك في ما بعد بأشعاره الحزينة. كتب ميخائيل الشاب عام 1830:
« وحيداً وسط صخب الناس
أموْتُ أنا تحت غطاء غريب…»
التحق ليرمونتوف الشاب عام 1828 بقسم الآداب في جامعة موسكو. لكن طبيعته الحساسة وميله الى المغامرات والمواجهات مع الأساتذة والطلاب اضطرته الى التخلي عن الدراسة في الجامعة والانتساب الى الكلية الحربية في بطرسبورغ التي تخرج منها عام 1834. واطلع ليرمونتوف خلال دراسته في الجامعة على إبداع الأدباء والشعراء والفنانين الرومانسيين الذين حازوا آنذاك شهرة كبيرة في روسيا، كما اطلع على فن نظم الشعر. ومن أشعاره الباكرة يمكن ذكر» الخريف»، «المزمار»، «ضلالات كوبيدون»، «الشاعر» «الشركس»، «الأسير القوقازي» و»القرصان»، التي كان يقلد فيها الشعراء الرومانسيين. لكن نزعته الرومانسية اقترنت غالباً بالاكتئاب والسعي الى العزلة والاغتراب عن محيطه الاجتماعي. فكتب ليرمونتوف في إحدى قصائده:
«كلّ شيء مملّ ومحزن،
وما من أحد أمدّ له يدي
في لحظات شقاء الروح المضنية…
الرغبات..! وما نفع التمنّي عبثاً إلى الأبدِ
والسنون تمضي.. أجمل كلّ السنين ؟!»
في كانون الثاني عام 1837 قتل أكبر الشعراء الروس ألكسندر بوشكين بمبارزة مع نجل المبعوث الهولندي الذي كان يخدم في بلاط القيصر نيقولاي الأول فكتب ليرمونتوف متأثراً بقتل بوشكين قصيدة «موت الشاعر» التي هاجم فيها العادات السائدة حينذاك في محيط القيصر، واتهم بلاطه بالتواطؤ والمساهمة في قتل الشاعر الروسي العظيم. وأصدر القيصر نيقولاي الأول مرسوماً يقضي بإرسال الملازم ليرمونتوف الى القوقاز ليشارك في الحرب مع الشراكسة.
أدهشته مناظر جبال القوقاز الخلابة، وتأثر خاصة بجمال الطريق الجورجي القديم الحافل بالأساطير والخرافات، ما ساعده لاحقاً في كتابة قصيدتيه المشهورتين «الإبليس» و«مسيري» وغيرهما من القصائد التي وصف فيها سحر جبال القوقاز وتاريخ وطبيعة شعوبه. واتسم الضابط الروسي ليرمونتوف بالشجاعة المفرطة والميل الى المغامرة. وشارك في معارك عديدة مع الشراكسة. وانعكست انطباعاته الناتجة من مشاركته في المعارك وبطولات الشعوب القوقازية في بعض قصائده المؤلفة في تلك المرحلة، ومن أشهرها قصيدة «معركة فاليريك».
في كانون الثاني 1838 عاد ليرمونتوف من المنفى وانهمك في كتابة القصائد الجديدة وبينها ملحمته « أنشودة التاجر كلاشنيكوف» وقصائد « الشاعر» و»التأمل» و»ثلاث نخلات» أسطورة شرقية إذ كتب:
«في الأرض العربية المغطاة
بالرمال الجرداءْ
بسقت عالياً ثلاث نخلات شمّاءْ…»
حاول الشاعر في إبداعه أن يظهر المشقات التي يواجهها الإنسان الموهوب الذي لا يقدره محيطه لاستقلاله وغطرسته. كما أعرب ليرمونتوف في قصائده تلك الفترة عن موقفه من وطنه وروحه الوطنية المتميزة وكتب:
«أُحبُّ الوطن، لكن، حبّاً غريباً
لا تنتصرعليه حصافتي !
لا المجد المشترى بالدم،
لا الهدوء التام للثقة الأنوف،
ولا الأساطير المقدسة في العهود المظلمة
تحرك فيّ كلّ الأحلام المفرحة !»
في شباط 1840 نفي ليرمونتوف مرة أخرى الى منطقة القوقاز لمشاركته في مبارزة مع نجل السفيرالفرنسي. ومن الصعب جداً ذكر جميع المبارزات التي شارك فيها. وجرت العادة في زمان ليرمونتوف أن يرد ضابط على الاتهامات موجهة إليه من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن طبيعته الحساسة المتأثرة بالعوامل الخارجية كانت تدفعه دوما الى المشاركة في المبارزات العديدة مع زملائه الضباط. وليس من قبيل المصادفة أن قدره شاء أن يقتل في إحدى المبارزات في القوقاز. وللمناسبة وصف ميخائيل ليرمونتوف على وجه التقريب مبارزته الأخيرة مع صديقه مارتينوف في روايته المشهورة «بطل من هذا الزمان». كأنه استشعر بموته الباكر في القتال أو المبارزة. وتجدر الاشارة الى أن صديقه مارتينوف الذي قتله في مبارزة وقعت في 15 تموز 1841 جُرّد من رتبة الضابط. لكنّه تمكن في نهاية المطاف من الترقي حتى رتبة لواء في الجيش القيصري.
كتب ليرمونتوف في قصيدة «وحيداً أخرج إلى الدرب»:
«أأنتظرُ شيئاً ما ؟ أأحنّ إلى شيء ما ؟!
قد أصبحتُ لا أنتظر من الحياة شيئاً
ولا الماضي أراه البتّة مؤسفاً
فأنا أبحث عن السكينة والحريـّة
وأودّ أن أُنسى… وأن أغفو…!».