التطبيع يتسلّل إلى مجتمعنا فهل نواجهه؟
الأمين د. أدمون ملحم
التسوية مع عدوّنا الصهيوني مستحيلة لأنه صاحب مشروع إلغائي يريد تقويض مجتمعنا وإلغاء كياناتنا ووجودنا لحساب قيام دولة استعمارية توسعية وعنصرية تستند على اعتقادات وهمية وثقافة متجمّدة لا تعترف بالآخر.. هذا المشروع يريد الاستئثار بكلّ شيء: بالأرض وخيراتها وكنوزها وبمعالمها الحضارية وآثارها وحتى برب العالمين الذي يعتبرونه إلههم الخاص، إله ميّزهم عن جميع البشر برعايته، واصطفاهم شعباً مختاراً فريداً في نوعه، وأراد لهم التفوّق والانتصار مسخراً لخدمتهم كلّ الشعوب والقبائل.. إله يقول لشعبه الخاص: «بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك» سفر أشعيا 49 . هذا المشروع العدواني القائم على الأباطيل يعتمد القوة والبطش والاحتلال وكلّ أساليب التعسف والقتل والإرهاب والسرقة والتزوير تحقيقاً لأهدافه في إحياء عنصريته ومعتقداته البدائية وفي السيطرة على أرضنا وتهويدها لتصبح ملكاً أبدياً له ينطلقون منها للسيطرة على العالم كله واستعباد شعوبه كما وعدهم يهوه في قوله: «… تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون» أشعيا 5:61 .
ومنذ نشوء الحركة الصهيونية المجرمة خاض شعبنا مع هذا العدو حروباً وجولات ومواجهات عديدة أدّت إلى سقوط الألوف من الشهداء والجرحى وإلى اعتقال الألوف من الأسرى، رجالاً ونساءً وأطفالاً ما زال قسم كبير جداً منهم يخضعون في سجونهم لشتى أنواع القهر والتعذيب.. وأدّت إلى خراب ودمار وتهجير وويلات في معظم كيانات الأمة.. ولكن كلّ هذه الحروب والمواجهات لم تكسر إرادة شعبنا ولم توصل هذا العدو إلى تحقيق هدفه بالاعتراف بشرعية دولته القائمة على الاغتصاب والإرهاب وبشرعية سيادتها على الأراضي التي احتلتها.
والأهداف التي لم يتمكّن العدو تحقيقها من خلال الحروب والجبهات العسكرية يحاول ومنذ أمد أن يحققها على جبهات أخرى من خلال اختراق مجتمعنا سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ومن خلال إشعال الفتن فيه وإضعافه وتفتيته.. ومن ثم فرض مشيئته وسلمه علينا.
لقد نجح هذا العدو بإقامة العلاقات الدبلوماسية مع بعض الأنطمة في العالم العربي وبرعاية أميركانية.. وتمثلت بداية هذه العلاقات العلنية الخطيرة في معاهدة كامب دايفيد عام 1979 مع دولة مصر في عهد أنور السادات.. إذ أخرجت هذه المعاهدة مصر بما تمثله من ثقل بشري واقتصادي وعسكري وإقليمي من معادلة الصراع مع العدو الصهيوني إلى الجانب الآخر، ومهّدت السبيل أمام التطبيع الفلسطيني الإسرائيلي في معاهدة أوسلو عام 1993 ليشمل العلاقات السياسية والأمنية والثقافية وإفساح المجال واسعاً ليتسلل الغزو الثقافي الصهيوني والأميركاني في الأوساط الفلسطينية ونشر ثقافة الهزيمة والتسوية التي أدّت إلى سلسلة من التنازلات دون ان يتخلى هذا العدو عن قوانينه الخبيثة وعن سياساته العدوانية حصار وإبعاد واغتيالات ودون ان يتراجع عن مشروعه الاستيطاني بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات وعن نيّته بضمّ القدس والجولان واستمراره باحتلال الضفة الغربية ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا… واستمرّ نهج التطبيع من خلال زيارات ولقاءات رسمية وسرية متعدّدة بين الملك حسين مع المسؤولين الإسرائيليين ومع الملك الحسن الثاني المغربي… وفي عام 1994، امتدّ التطبيع في العلاقات الدبلوماسية والسياسية ليشمل النظام الأردني في معاهدة وادي عربة ومجلس التعاون الخليجي الذي رفع الحظر والمقاطعة الاقتصادية عن الكيان الصهيوني.. وبدأت العواصم العربية كتونس والرباط والدوحة ومسقط والمنامة ونواكشوط بفتح سفارات ومكاتب ارتباط ومكاتب رعاية للمصالح الإسرائيلية..
وأمسى التطبيع مع دولة العدو وإقامة علاقات طبيعية معها مفهوماً متداولاً لا بل ثقافة رائجة في ظلّ سقوط النظام الرسمي العربي نتيجة إفلاسه وانقساماته الشديدة وتسابق بعض أنظمته الرجعية المُدمنة على الخيانة في الإعلان عن الشراكة والصداقة التي تجمعهم مع «إسرائيل» وفي المجاهرة بإقامة علاقات تجارية او سياسية او ثقافية مع هذه الدولة المتغطرسة والإنخراط الفعلي في مشروعها.
وفي هذا الزمن الرديء الذي تتخبّط فيه كيانات أمتنا بالتناقضات والصراعات وتعاني من الإنقسامات المذهبية والعشائرية ومن ويلات الحروب المدّمرة التي شٌنّت عليها.. في هذا الزمن الإنحطاطي يطلّ التطبيع برأسه في كلّ الساحات والميادين: في المجالات الإقتصادية، بضاعة وتجارة وسياحة وأفلام، وفي المجالات الثقافية والتربوية والإعلامية والسياسية والفنية والرياضية وغيرها من المجالات.
ويتسلل إلينا الغزو الثقافي الصهيوني معتمداً الإعلام المبرمج المدعوم بالآلة الإعلامية الغربية الموجهة لشعوب العالم العربي ولشعبنا بصورة خاصة والذي يحاول غسل الدماغ الجماعي وتكوين القناعات بواسطة وسائله الناعمة وتقنياته المتنوّعة وادّعائه الكاذب باحترام الحرية الفردية وبالدفاع عن حقوق الإنسان ليصل بهم إلى الاقتناع بعدم جدوى خيار المقاومة المسلحة في تحقيق الأهداف القومية ويحاول تحطيم الأمل في النفوس في إمكانية استعادة الحقوق القومية التاريخية. ويتحرك هذا الإعلام وفق حملات منظمة تهدف لتذويب هويتنا القومية بنشر الأكاذيب وطمس الحقائق وتزوير تاريخنا القومي الحافل بالمآثر والحط من قيمنا الأخلاقية والدينية وتشويه كلّ إنتاجنا الحضاري والسعي لتحييد جماعات من شعبنا لتتجاهل اغتصاب فلسطين ولتتبنّى شعارات الجهاد بالاتجاه المعاكس.. ونتيجة لهذه الحملات ولظاهرة العولمة الاقتصادية التي أحدثت تغييراً في بنية وركائز المجتمعات، ونتيجة لخطة العدو الممنهجة بتحويل مقولاته المزوّرة إلى حقائق «طبيعية» وبتحويل اغتصابه لفلسطين كحق طبيعي له بهذه الأرض.. بدأنا نسمع بمقولات القبول بـ «إسرائيل» من بعض المنتفعين حالياً من النفوذ السياسي والطامعين في المناصب العليا وفي المنافع السياسية والاقتصادية ومن المرتهنين والمثقفين المزيّفين والخائفين والساقطين في أفخاخ العدو وأوهامه.. بتنا نسمع أصواتهم النشاز بأنّ «إسرائيل»، شئنا أم أبينا، هي أمر واقع ويجب القبول بها على أيّ مساحة كانت لأنه لا يمكن تغيير هذا الواقع المعترف به عالمياً والمدعوم غربياً بسخاء.. لذلك يجب الإعتراف بهذا الواقع والتعايش معه بسلام واعتباره حقيقة ثابتة ومكّوناً طبيعياً من مكونات المنطقة وهذه الثقافة الإنهزامية تؤدّي إلى إقامة العلاقات الطبيعية مع هذا الكيان وتُبرّرُها…
كيف يبرّأ المغتصب المحتلّ؟
إنّ «إسرائيل» هي دولة استعمارية إرهابية تقوم على الإجرام وتمثّل أقسى أنواع الظلم ولا يمكن القبول بها لمجرّد وجودها. فكيف يمكن تبرئة المغتصب المحتلّ الذي دمّر مئات من القرى الفلسطينية وشرّد شعباً أصلياً عن أرضه وبيوته وقراه؟ وكيف يمكن إقامة علاقات طبيعية مع دولة شيطانية عنصرية لا تحترم قدسية الحياة الإنسانية وقيمة الإنسان غير اليهودي ولا تقيم وزناً للقوانين الدولية ولشرعة حقوق الإنسان بل تمارس القتل والتدمير وترتكب أبشع المجازر والمذابح بحق شعبنا باستمرار؟ كيف يمكن القبول بهذه الدولة الإلغائية التي تحاول بسياسة المراحل الهيمنة على كامل بيئتنا الطبيعية تحقيقاً لأحلامها وهدفها الأسمى بإقامة «الإمبراطورية الإسرائيلية» الممتدّة من النيل إلى الفرات حسب تصريحات القادة الصهاينة الذين يجاهرون بخطبهم انّ كلّ احتلال هو مجرد مرحلة انتقالية على طريق الوصول إلى هذا الهدف؟
وهذه الدولة العدوانية المتغطرسة تتلقى الدعم السياسي المطلق في كلّ المحافل وتتلقّى الدعم الإعلامي والمعونات العسكرية والمالية والإقتصادية من القوى الرأسمالية المهيمنة وخاصة من الولايات المتحدة الأميركانية والاتحاد الأوروبي بكونها قاعدة عسكرية متقدّمة وظيفتها الحفاظ على المصالح الاستعمارية في منطقتنا التي تمتلك أهمية جيو – استراتيجية كبيرة في ما يتعلق بطرق التجارة العالمية البريّة والبحريّة، كما تمتلك بمواردها الطبيعية خزاناً غذائياً ممتازاً واحتياطيّات كبرى من الغاز والنفط عصب الاقتصاد الرأسمالي المعاصر. لذلك لا نستغرب محاولات الغرب وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المستمرة لدمج «إسرائيل» على الصعد الإجتماعية والاقتصادية والثقافية في حياة المنطقة وتطبيعها من خلال جملة من المشاريع الثقافية والبيئية والإقتصادية المشتركة العابرة للحدود والهادفة إلى إخضاع المنطقة اقتصادياً ومالياً للهيمنة الإسرائيلية وتحويلها إلى سوق استهلاكية ومخزن للعمالة الرخيصة…
إنّ دولة «إسرائيل» الصغرى التي أعلنت عام 1948 هي ليست الهدف الأخير للصهاينة بل هي محطة مؤقتة على طريق الحركة الصهيونية الماضية لبلوغ أهدافها النهائية النابعة من صميم العقيدة اليهودية بإعادة الشعب اليهودي إلى أرض الآباء والأجداد تحقيقاً لرؤيا أنبياء «إسرائيل». هذه الدولة هي قاعدة انطلاقهم للتوسّع ولتحقيق الهدف الأسمى ألا وهو انتصار «الصهيونية المتجسّدة في امبراطورية إسرائيلية» ممتدّة من «الفرات شرقاً إلى النيل غرباً» وتضمّ يهود العالم لتعيد أمجاد داود وسليمان. إنّ تصريحات معظم كبار الزعماء والقادة الصهيونيين من بيغن وإسرائيل غولدشتاين إلى ليفي أشكول وموشيه ديان وغيرهم تؤكد على النوايا الصهيونية التوسعية كما يؤكدها مسار الأحداث في السنوات التي أعقبت نشوء دولة «إسرائيل» الصغرى قاعدة الانطلاق والتي أدّت إلى الاستيلاء على منطقة العقبة وتحويلها إلى ميناء إيلات بعد اقتلاع معظم سكانها من البدو والعشائر الذين يعملون في الزراعة أباً عن جدّ وتهجيرهم بشكل لا إنساني بحجة التمدين، وإلى غزوة 1967، وإلى احتلال الجولان والضفة الغربية وجنوب لبنان.. وهكذا سيستمرّ نهج التوسع وضمّ الأراضي والإستيطان حسب المشروع الصهيوني لتحقيق الهدف الرئيسي بإقامة دولة يهودية «نقية» هي دولة «إسرائيل الكبرى» وتأكيد ما يدّعون أنه «الحق التاريخي والأبدي لشعب إسرائيل، على أرض إسرائيل الكاملة»، حسب مجمل المنظمات والأحزاب السياسية الإسرائيلية.
محاولة التأسيس لمرحلة جديدة
وبالعودة إلى التطبيع، فغاية دولة العدو هي التأسيس لمرحلة جديدة تزول فيها حالة الطوق والعداء التي كانت تحاصرها وحالة التهديد الأمني الداخلي التي تعاني منها نتيجة الاتفاضات الفلسطينية ونتيجة القنبلة الديموغرافية الموقوتة التي تداهمها بتزايد النمو السكاني الفلسطيني ونتيجة إنكسارها على يد المقاومة الوطنية اللبنانية بدعم من الشام. والتأسيس لهذه المرحلة الجديدة يحصل بخلق أوضاع جديدة في المنطقة من خلال شرذمتها وإعادة ترتيبها في دويلات هزيلة تدور في الفلك الإسرائيلي ويندمج فيها الاقتصاد الصهيوني ويحقق المكاسب الاقتصادية والأمنية.. فإسرائيل هي بحاجة ماسّة إلى المياه وإلى الأيدي العاملة ورأس المال وكلّ حاجات النمو الاقتصادي.. وكلّ ذلك سيتأمّن لها من خلال الاندماج الاقتصادي والأسواق العربية لتصريف بضاعتها ومنتوجاتها وبهذا العمق الاقتصادي سينتعش اقتصاد هذه الدولة التي تتمتع بقدرات عسكرية وبتقدّم تكنولوجي وزراعي متطوّر لتصبح دولة إقليمية مهيمنة ومرشدة وقادرة على فرض إملاءاتها.
الغزو الثقافي هو استراتيجية فعّالة اعتمدها العدو لأنها تؤمّن له السيطرة والهيمنة الاقتصادية والسياسية بأساليب غير عسكرية. وغاية الغزو الثقافي والفكري هي احتلال العقول وإحداث الهزيمة في نفوسنا وبالتالي إحداث تغييرات فكرية وذهنية تجعل من شعبنا مستسلماً للإرادتين الدولية والصهيونية وراضخاً لمشيئتهما. انّ الغزو الثقافي هو أخطر من الغزو العسكري لأنّ من يحتلّ العقول يقضي على الحقائق ويقضي على أيّ أمل في توليد إرادة التحرير في حين انّ الاحتلال العسكري قد يؤدّي إلى استيقاظ الشعور القومي والاندفاع لمقاومة الاحتلال.
التطبيع يتسلل إلى مجتمعنا بوتيرة سريعة فهل نواجهه؟
إنّ مواجهة الغزو الثقافي والفكري وكلّ أشكال التطبيع هي مسؤولية مجتمعية، رسمية وشعبية. إنها مسؤولية الدولة وكلّ القوى الحية والممانعة باعتماد خطة كفيلة بتحصين المجتمع وبإيجاد حالة ثقافية شعبية رافضة للتطبيع والإعتراف بدولة العدو.
فعلى الصعيد الرسمي، المطلوب من الحكومات إيجاد القوانين الصارمة التي تعاقب المتعاملين مع دولة العدو او مع أفراد منه وتمنع مؤيدي هذا العدّو والمروّجين له بأن يمارسوا او يحاولوا تنظيم نشاطات فنية أو رياضية او أكاديمية او غيرها.
والمطلوب من حكوماتنا رسم سياسات تربوية وإعلامية وثقافية غايتها توعية المجتمع والأجيال القادمة لخطورة التطبيع والأهداف المستترة لهذا العدو وترسيخ ثقافة المقاطعة لكلّ ما هو «إسرائيلي» وثقافة المواجهة لكلّ الأفكار الهدامة التي تأتينا من الخارج والتي تؤثر على الشباب وخاصة جيل المراهقين منهم فتؤدّي بهم إلى حالات الضياع واليأس والإحباط وعدم الشعور بالمسؤولية.
وعلى الصعيد الشعبي، فالمطلوب من قوى المقاومة والأحزاب العلمانية التعاون لتعميم ثقافة المقاومة وترسيخها في النفوس من خلال حملات إعلامية وندوات ثقافية وبرامج تربوية تعمّقُ الوعي الوطني وتُركّزُ على التراث القومي وتدعو إلى نبذ العصبيات المذهبية والعشائرية والعائلية وإلى تحقيق النظم الديمقراطية التي تساوى بين المواطنين في حقوقهم وواجباتهم.
ثقافة المواجهة الشاملة
المواجهة مع العدو هي مواجهة شاملة وطويلة الأمد وتستدعي منا الوضوح في الرؤية والأهداف كما تستدعي منا أن نعرف هذا العدو بحقيقته وأهدافه.. يجب الاعتماد على رؤية واضحة وخطة هجومية تزيل المفاسد وكلّ عوامل التبعية والضعف والإنحطاط.. وتنشر الثقافة القومية الرافضة للتقوقع والإنغلاق وتحرّك الوجدان الإجتماعي وتنمّي روح الرفض في شعبنا لمفاهيم «السلم الإسرائيلي» وتؤهّل المجتمع لكي يتمكّن من التصدي والمواجهة لكلّ التحديات الحضارية والإنسانية..
المواجهة مع العدو تحتاج إلى ثقافة أصيلة تراهن على إرادة الحياة في شعبنا وعلى تمسكه في أرضه وحقوقه، وتراهن على النفوس المؤمنة والواثقة بقدراتها وبما يختزن فيها من خير وحق وجمال وإبداع والمستعدّة دائماً لمواجهة الصعاب والاستشهاد.. ثقافة مقاومة تدعو كلّ الشعب للوحدة والتعاون والصراع من أجل الحرية والسيادة والاستقلال ومن أجل تحقيق العدالة والكرامة لكلّ المواطنين من دون تمييز.