إيقاع الجملة الروائية في «فسحة للجنون» لسعد محمد رحيم
ضحى عبد الرؤوف المل
تمتمد اللقطة السردية في الجمل وترنيمتها الإيقاعية عبر النسج المتقن المرتبط بالأسلوب المرن، وما يترتب عليه من دقة ملاحظة في ذهنية المشهد الدرامي داخل رواية «فسحة للجنون» للروائي سعد محمد رحيم الصادرة عن دار «سطور»، وفسحة فتحتها للوحدات السردية المجزأة ضمن المنطق الوظيفي للسرد، المتماسك على مستوى البناء الروائي، المتضمن حركة الأشياء حول الشخصيات ومحاكاتها، ككائنات لها وجودها في المشهد وأهميته، وبتأطير شكل ديناميكة الرؤية مع الانسياب في مسارات الصياغة المستندة إلى حيوية ما يريد إيصاله للقارئ، وهي الحروب بمراحلها عبر الزمن الواحد من خلال الامتداد الطبيعي للحدث ومستويات السرد المتمايزة تعبيريا، معتبرا أن المفتاح الحقيقي للرواية هو فسحة للجنون، أو الخروج عن المألوف، بترنيمات تتدفق مع إيقاع الجملة وخصوبتها، والتوغل بالعين السحرية إلى عمق أبجديات المجتمع الذي يتحدث عنه سعد محمد رحيم، ليؤسس بشكل درامي حالة من الأوزان المتنامية في النص، ما بين جملة قصيرة جدا وجملة قصيرة أخرى، ومن ثم جملة طويلة قادرة على إنهاء المشهد أو الصورة أو المعنى اللفظي، أو الالتفاف على القارئ. ليقرأ خطوة بخطوة رواية هي حقا فسحة للجنون حتى عبر لوحتها التشكيلية المحاكية للمضمون، بتفاصيل شتى من اللون إلى الأسلوب، فالتقاطيع الفراغية التي تشبه الانتقال من حال إلى حال. فهل يحاول سعد محمد رحيم العودة بنا إلى الرواية القديمة بأسلوب معاصر؟ أم إنه يحبك جدارية من مكان ما منسي في العالم لتبقى للعالم المتطلع إلى معرفة داخل مجتمعات أكلتها الحروب؟
«لا مطابخ عامرة في البلدة لتحتال القطط على ربات البيوت وتسرق منهن قطع اللحم المعدة للطبخ» جملة قادرة على اختصار المعاناة التي وصل إليها الحيوان قبل الإنسان، وتصوير للانسانية في أحط أوضاعها تلك التي تجعل الإنسان والحيوان في متاهة الوجود بين براثن الحياة والموت والفقر الاجتماعي، إضافة إلى التكسر والتهشيم، فشخصية حكّو تمثل قوة البقاء والتحدي واستكمال الحياة بإصرار على مصارعة التحديات بكل القوى التي من شأنها وضع الإنسان على مفترق طرق «أحد الجرحى يئن، والآخر فقد الوعي بعد أن غطى صدره الدم، والثالث ينزف من ساقه، وكان في وعيه، يغالب ألمه شاداً بيديه السمراوين القويتين إلى أعلى مواضع الجرح». فالصور الأليمة الغارقة بحنكة الصياغة في جعل المقاطع الروائية مقسمة إلى مشاهد لساحات الأوجاع الحقيقية للإنسان في الحروب التي تفر منها القطط، ويبقى الإنسان متمسكا بكل جزء من تراب وطنه، فهل نجح سعد محمد رحيم بأسلوبه في حبك المشهد الدرامي في رواية اقتضبت جملتها، وتكاثفت صورها واشتدت لغة الحوار فيها، وكأن الحركة الروائية اعتمدت على العين الساحرة التي ترى وتضع ما تراه امام القارئ ضمن فسحة للجنون، وهي المشهد المفتوح للقارئ.
تتابع بطيء وهدوء في النسج والحرب الشبيهة بدائرة لعقارب ساعة روائية يجعلها مرتبطة بساحات صراع مختلفة نابعة من مؤثرات الحرب على النفس وحصيلة الواقع المر، والتأثيرات السلبية على الأحلام التي تطالها سهام الحروب، وتجعل منها خارج الأيديولوجيات، وضمن التطلع إلى الإنسان الغارق في الأحداث السياسية التي تجعله مشتتا نفسيا ضائعا كالذي يتناول العرق، أو الغائب عن الوعي من الولادة حتى الموت، أو الذي يعيش في جنون لا ينتهي حيث تصبح التفاصيل مفتوحة على الهروب من الحالة الاجتماعية والسياسية بالجنون، وخروج الإنسان عن طور الحياة العاقلة التي تؤهل العراقي خاصة، ليكون ضمن الإنسانية والتذوق، والفن رغم كل العذابات التي يتعرض لها، بدون أن يلجأ سعد محمد رحيم إلى معالجات القضايا، وإنما إبراز الواقع البائس كما هو وبتجرد، بدون مجاملات أو مبالغات روائية، أو الخروج عن المألوف، بل بتكوين المشهد تلو الآخر بأريحية تميزت بالمشهد المكتمل للذهن والتخيلات المستندة إلى عدة جوانب في السرد والوصف، وتركيب المشهد بدقة متناهية، كأنه يتمازج مع التحولات الموضوعية في القضايا التي تناولها في روايته، والتي تسهم في نقل التفاصيل العراقية أثناء الحرب، بدون الولوج إلى الرواية التي تعتمد الأسلوب الحداثي، وبتقنية خاصة قام بوضع معادلتها الخاصة وفق معايير روائية متعددة، إنما تلك التي تعتمد التنقل بفنون السرد إلى فتح فسحة الجنون على الواقع، فهل نجح في استدراج القارئ إلى لب الرواية، أو جوهرها من خلال الجمل القصيرة والمشهد الدرامي والحركة التخيلية القائمة على سينمائية التصوير، والاسترجاع والمرونة في بث الحيوية في المعاني، لجذب القارئ حتى النهاية، رغم هدوء الداخل الروائي وصخب الشخوص، وهل يؤهل بذلك روايته لتكون عملا سينمائيا؟
اعتمد سعد محمد رحيم تكثيف الزمان والحدث والمكان، لاستخراج المرئي المتخيل من الأدب الروائي، ووضعه على طاولة كتاب السيناريو ببساطة شديدة، أو بالأحرى، لتبسيط قدرة كتابة الرواية من خلال القاموس العراقي الاجتماعي، أثناء الحروب التي طالت عليه وتركت الإنسان فيه يغدو كفسحة مفتوحة للصراع المتعدد الوجوه، الذي يغدو مادة غير متخيلة، بل مقتطعة من القضايا الشاقة على الأنفس المتعبة من شح المجتمعات في الحروب المستمرة بدون انقطاع أو استراحات، وبتزاوج مع الشخصيات المختلفة التي تركها في الفسحة كأنها على مسرح الحياة الوجودي والتحديات بقوتها المدفوعة بحب البقاء، أو الاستمرار، وبصياغة تعبيرية تميزت بالوضوح الشديد، كأنه يضع الفسحة تحت المجهر، لنكتشف مساوئ ما يحدث في هذا التمزق المؤدي إلى هلاك الإنسانية.
تذبذب بين عدة مراحل روائية تحدد المفهوم القائم على مبدأ النص المرئي واللامرئي والمنطوق، الذي يشكل حقيقة اجتماعية تندمج معها السمات التي تكشف عن وعي القارئ ووعي الكاتب من خلال سعة المعطيات الحركية وتفكيكها، ومن ثم إعادة انصهارها وكأنه يكتبها بمهارة الكلمة واختصار الجملة وتحديات الحداثة، بدون اعتماد الاختزال الزمني وبمزيج امتد إلى الغلاف، وثقافة الصورة التي تحداها باستثمار الحدث في بناء الصورة داخل العمل الروائي المختلف الاتجاهات والمتحول إلى مادة حيوية يمكن تحويلها إلى عمل مرئي يمثل واقع الحياة العراقية واشتدادها على كل الكائنات، بدون استثناء، وبهذا يكون محمد سعد رحيم قد نجح بالأسلوب الروائي ليضع الشخوص في فسحة فتحها على عدة فنون أخرى.
كاتبة لبنانية