«ترمي بشرر»… لماذا تتلطّى المرويّات وراء إصبع الدين؟
محمد رستم
كون العنوان هو عتبة العمل الإبداعي الأولى، ما يستدعي الوقوف أولاً هنا، بعدما تتجمّد حواسّنا كلّها أمام ردّ الفعل العفوي بالسؤال، ماذا يريد من وراء «ترمي بشرر»؟!
وهذا ما يدفع المتلقي المتبتّل بالاستعاذة قبلاً، وما أن ينغمس بين السطور، حتى تتأكّد له ضرورة التحصّن بكلّ المتعوذات، إذ تلوّح له شياطين الرذيلة منذ شهقة أوّل حرف من المرويّة.
والمعنون في تناصّه مع القرآن يأخذنا إلى كثافة تعبيريّة بتوسيع الدلالة لتشمل مجتمعاً بكامله. وواضح أنّ الكاتب عبده خال قد ولج ذائقتنا القرائيّة من باب الدنس الذي تقشعرّ منه الأبدان. الحدث يبدأ بحيّ «الحفرة» وقاطنيه الذين يضربون في رابعة الفقر والرذيلة والضياع. حيث نبتت القصور الكثيرة العائدة لـ«السيد» كفاصل بين الحيّ والبحر ليقطع على الأهالي سبل حياتهم في حِرفة الصيد. ولعلّ محور الرذيلة بكلّ ألوانها أهم محاور المرويّة.
فحارة «الحفرة» تطفو على بحر من الدناسة. ولعلّ براغيث العهر تتقافز في جينات «طارق» فرحِم سَنِيّة لا تُخرج إلّا الثمار الفاسدة بحسب قناعة عمّته
لقد أولم «طارق» لغريزته كلّ ممكنات الشذوذ والانحراف في حارة كلّ ما فيها يدفع نحو الرذيلة. فهناك زقاق الكفت. والتسمية ذات مدلول جنسيّ وهو زقاق مظلم اشتهر كموقع لمواطأة الصِّبْية الذين يقادون إليه رغبة أو رهبة ، والشذوذ في الحيّ ظاهرة جماعية. فليس «طارق» وحيداً في هذا الوحل: «وأنا أنتظر فريستي ياسر مفت، كان صوت مصطفى القناص حاداً يطالبني بخلع ملابسي. فظهر عيسى الرديني وأنقذني، وعندما حضر ياسر مفت اشتركنا ثلاثتنا في نهشه».
لعل استخدام كلمة «نهشه» توحي بحقيقة الواقعة، فهم وحوش يتعاورون فريسة.
الشخصيّات بالمطلق أشبه بقطعان منفيّة من ذاكرة الإنسانيّة. «عيسى»، «أسامة» و«طارق» و«مصطفى القنّاص». أصدقاء طفولة قذرة. «مصطفى القنّاص» تفرّغ لاصطياد الغلمان، ولانحرافه سمّي «البفته» لمتابعته الصبيان بيض البشرة. ولعلّ عبارة «اصطياد الغلمان العادة المتبعة من قبل رجال الحارة العتاة» تحدّد هوية الحيّ. ولتبحّر «طارق» في الرذيلة لُقّب بـ«ماطور النفخ»، وعن مجتمعه الغارق في السقوط يقول طارق: «لم يكن إتيان الذكور شذوذاً متأصّلاً، كان فعلاً للخروج من براثن المتربّصين بالصبية. والفرد إما أن يكون صيّاداً أو فريسة». فأيّ مجتمع مفضوح العورات هذا، حيث لا يترك للمرء خياراً سليماً؟!
وحارة بهذه الدناءة ماذا يمكن أن يضيف إليها فساد القصر وسيّده من قذارة، غير أنّه حوّل الدعارة واللواط والقوادة إلى مِهن وحِرف: «وللسيد مندوبون يقومون بدور القوّادين للإيقاع بالفتيات أو ببنات الهوى، ولدى السيّد الفواحش وحدها ممنوعة من الصرف. فعلى قارعة الشهوات نثر كل أنواع الشذوذ».
وبذا، يبدو «السيّد» عرّاب القبح المتشكّل على غير هيئة أو نموذج، إذ يقوم بتأديب خصومه عن طريق «فحل»، وقد كلّف «طارق» بهذه المهمة «حيث يقوم باللواط بهم تحت أضواء الكاميرات، وكأنّهم يمثلون فيلماً سينمائياً وذلك لتوثيق الواقعة كي يضمن خضوعهم الدائم له».
وقبل دخول «طارق» وأصدقائه القصر، كانت أجسادهم تنوء بشراهة لاقتطاف اللذّة وكانوا على موعد دائم تحت سطوة الشهوة مع المتعة. وليس سوى الرذيلة وسيلة. وداخل القصر بات الجنس والشهوة لغة الفصول الأربعة لديهم وفرس الرهان الأوحد لوهم الخروج من عنق الألم، وما يتم داخل القصر إنّما هو دعارة بمباركة الجميع، والبغاء هو الهواء السائد في القصر.
وعن المحور الثاني في المروية… «الأنثى» التي رأتها المرويّة مجرّد جسد يمنح اللذّة، بل فاكهة يلتذّ الرجل بقضمها، والفضيلة لديها في إجازة دائمة. فطارق يتحدث عن أمّه وكأنّها فاسقة «أظنها لعبت دور العاشقة لعاشقين». ويتابع: «هذا هو عهر النساء، من ينام على صدورهنّ تخفق له قلوبهنّ». هذا المنطق في النظرة إلى الأم، يخرج الرواية من إطارها الإنساني وعن الأنثى نقول: نحن لا ننكر أنّها تلهث في لحظة التوق لأن يدلق الرجل شيئاً من عطر نشوته على صحراء عطشها.. لكنّ لحظة التوق تلك لا تغطي سوى مساحة ضئيلة من شريط حياتها، فالجانب الجنسيّ يتنحّى في الغالب أمام الواجبات الحياتيّة الأخرى، فحواء ليست مومساً، بل هي طهارة الحياة. ولأنّ حروف الرواية مغمّسة بالرذيلة، غدا العالم الروائي عالم دعارة ودار بغاء والبطولة فيها للعملية الجنسية.
ويحاول الكاتب أن يشير إلى موضوع الحب فتأتي حكاية «أمّ السيّد وحبيبها وقصة عيسى وموضي.. وأسامة وتهاني وطارق وتهاني»، وكأنّها رقعة غير مقنعة، لا بل نافرة على جسد الرواية. فكيف للرومنسية والعشق أن يجدا طريقاً في هذه النفوس المتحطّبة؟
وما يعوم في المروية الصادرة عن «دار الجمل»، القبح والنتانة والتشوّهات. فليس في الرواية ما يوحي بالأنسنة. الشخصيات مجرّد روبوتات جنسيّة ليس إلّا، والعلاقة الأسريّة مفكّكة. فوالد طارق مجرّد ديك يمرّ على أربع دجاجات.
حقد «طارق» على عمّته وأمه وأقاربه ونفوره منهم وحقده على المرأة «هل اقتصّ لأمّه في صورة عمّته بتقطيع أجزاء منها أو في تهاني بهتك عذريّتها؟ أو اقتصّ من أمّه بنسيانها أو بإتيان الرجال كاكتفاء وعدم الحاجة إلى المرأة؟». ولعلّ الخلل الواضح في المروية هو في التناقض داخل الشخصيات المتفلّتة من أيّ عقال، بسبب من هشاشة البنية النفسيّة لها.
فهي تقترف الرذيلة وتبدي تضايقها، لا بل ندمها. لكنها تعاود ذلك مرّات ومرّات. لذا بدا الصراع داخل الشخصيات مفتعلاً، فالإدمان على مقارفة الرذيلة وتكرار الندم يجعل الصراع النفسيّ غير حقيقي، ولا طائل منه. وهذا التناقض يصرّح به «أسامة»: «ألا ترى كم نحن غرباء؟ أنا أبحث عمّن فضّ بكارة تهاني لأقتله، ويومياً أساهم في فضّ بكارة فتاة لها أسرة وحبيب، كم نحن سفلة».
الشخصيات بدت نمطيّة مسبقة الصنع تمثل نماذج جهيرة للاستلاب وفقدان الإرادة، كما تعاني من فقدان الوحدة النفسيّة، فأعماقها مفرغة من إنسانيّتها، لأنّها مهزومة من غرائزها قبل صياح الديك، في عالم روائي مبستر أقرب إلى المجتمع المخبريّ. وكما أنّ كل القطط ليلاً متشابهة اللون، كذا بدت الشخصيات محطّمة الروح متكسّرة على صخرة الحياة تذروها رياح الشهوة في أربع جهات الكون.
ولعلّ الكاتب رسم لنا شخصيات كنماذج لحالات مرضيّة. فـ«السيّد» هذا المريض بداء العَظمة العصابيّ والمغلّف بسادية قاتلة، هو مسلوب الإرادة وكذا كلّ شخصيات المروية مصابة بداء انعدام الإرادة، فهي تنجرف إلى الفعل بدافع الغريزة، لذا كانت الشخصيات تمارس الشذوذ وتلعنه، فطارق عبارة عن كتلة غرائزية غير متوجهة، وهو صورة عن بقيّة الشخصيات. لذا، هم جميعاً ضحايا مجتمع فاسق. المرء فيه «إمّا أن يكون صياداً أو ضحية». وكما أنّ الذئاب لا تلد حملاناً، كذلك مجتمع كهذا لا يفرّخ إلّا الشذوذ والرذيلة.
والمروية تنتهك خطيّة الزمن باعتمادها الخطف خلفاً، وتأتي النهاية الكابوسية مفتوحة على كل الاحتمالات. وكنت أتمنى أن ينحو الكاتب صوب العلمانيّة، لا أن يعتمد اللبوس الديني، بدءاً من العنوان وصولاً إلى التلميح إلى أن «إبراهيم» شقيق «طارق»، أضحى شيخ الجامع ويعيش حياة هانئة برغم فقره.
هذا وقد تزيّنت الرواية بأسلوب سرديّ تعبيريّ انسيابي متدفّق بتواصليّة محبّبة وبحروف تنفتّح على الجمال البلاغي، رغم الأنفاس النتنة التي تتصاعد منها.
كاتب سوري