عماد مغنية: فلسفة الحرب
ناصر قنديل
– لم يكن أبرز قياديي تجربة المقاومة في لبنان على المستوى العسكري من الضباط السابقين في أحد الجيوش والتحق بصفوف المقاومة ناقلاً علمه وخبرته، ولا قيادياً في تنظيم من التنظيمات الفلسطينية التي عايشها وتفاعل معها في ريعان الشباب قبل بدء تأسيس المقاومة في لبنان. فهو تفرّغ لهذه المهمة وقد بلغ العشرين فقط، لينهل من الكتب علومه ومن العقل النقدي الذي تميّز به مقارنة التجارب والمعطيات وانتقاء الأمثل والأنسب منها، ومن عبقريته وتحفزه لإنجاز نوعي يثق أنه ممكن، ليبتكر ويضيف ويطوّر، حتى تبلورت رؤيته العسكرية الأقرب لمدرسة في الاستراتيجية لها ركائز وقواعد، وليست مجرد تراكم لبطولات فردية، أو لابتكار تكتيكات فعالة في المعارك المنفصلة، أو تحديث لأنواع من السلاح لجعله أشدّ تأثيراً وفعالية، وقد نجح عماد مغنية بفعل ذلك كله.
– نتحدّث هنا عما يتخطّى الإيمان بفلسطين كعنوان للمعركة، وما يتجاوز اليقين بالنصر، وما يستند لليقن بقوة أن إيران الإمام الخميني وإيران السيد الخامنئي لن تتخلّى عن خيار المقاومة ودعمه بكل ما هو متاح، كما نتحدّث عن شيء آخر، غير الابتعاد عن الهموم الجانبية والاهتمامات الثانوية كلها، التي تصرف الأحزاب المقاومة عن مهمتها وتستنزف مقدراتها وتأكل هيبتها، كالدخول في منازعات مع مَن يُفترَض أنهم في الصف نفسه على عناوين التكتيك أو التسويات في منتصف الطريق، أو الفتن العقائدية والطائفية والمذهبية، أو التطلع لممارسة السلطة والنفوذ، لتكون هناك بوصلة واحدة وعدو واحد. وهذه كلها من ثوابت الشهيد القائد، بمثل ما هي من ثوابت المقاومة وحزبها الأهم، حزب الله.
– الركيزة الرئيسية في فلسفة الحرب التي صاغها الحاج عماد للمقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة، تقوم على أولوية سلاح رباعي، قوامه العبوات والصواريخ والأنفاق وشبكات الاتصال السلكية، ولكل منها علوم ومنتجات، يجب على المقاومة أن تتقن العلوم وأن توطّن تقنياتها، وأن تمتلك كل مفردات منتجاتها، بأوفر كميات متاحة، وتتعلم كيف تصنّعها، بكل مراحل خطوط الإنتاج، ولكل مستويات التقنية وأعلاها، وتبقى تراكم منها وتخزِّن ما يصل لأيديها، وفقاً لقواعد العلم وشروط الأمان وتسهيل قدرة الاستخدام، فتفرّغ شخصياً ليتقن علوم العبوات والصواريخ والأنفاق والشبكات السلكية، بدءاً من أبسطها، النفق والعبوة والصاروخ والشبكة السلكية، نفق يُحفَر بالمعول كما في تلال جبل صافي، وصاروخ كاتيوشا يصنع معادلة الردع الأولى في تفاهم نيسان 96، وعبوة تصنَّع يدوياً تستهدف أرتال الآليات «الإسرائيلية»، أو يقتحم بها استشهادي مقرّ الحاكم العسكري «الإسرائيلي» في صور أو مقرّ المارينز في بيروت، وشبكة سلكية بسيطة كسنترال مكتب شخصي تربط غرف العمليات في جبل صافي بالضاحية والبقاع، ويصعد بها إلى أعلى السلم، ساعياً ليبلغ في طموحه مشروع نفق يشبه مدينة تستعدّ لحرب نووية، يؤمن دورة عمليات المقاومة ويربط مناطقها، وتتحرّك فيه آلياتها وتُخزّن صواريخها، وتتحرّك للإطلاق منها وتعود إليها، وتربط مناطق عمل المقاومة إذا تيسّر لها من طهران لدمشق فبيروت فالجنوب فغزة، والجليل – وما أدراك ما الجليل؟ – وعبوات تنسف أسطورة التفوق التي صنعتها الميركافا، ومثلها تنسف بأطنان من المتفجرات مسار رتل مشاة عسكري وآلي محمول، وشبكات سلكية معقّدة كسنترال نيويورك، كما كان يقول، تسقط التفوق التقني الأميركي «الإسرائيلي» في علوم التنصّت، وتمتدّ إلى حيث يمكن لأيدي المقاومين أن تصل.
– الركيزة الثانية لاستراتيجية الحاج عماد العسكرية، كانت الإعداد لجيش شبه نظامي، يجمع بين مقدرات جيش نظامي في سلاح الصواريخ، والشبكة السلكية وبناء الأنفاق، وقواعد حرب العصابات في قتال العبوات. جيش يضم ربع مليون بين متفرِّغ مقاتل محترف، وقوة يمكن ضمّها في الحروب الكبرى، يكون جاهزاً لفلسطين، بعد تحرير الجنوب، ومثله في فلسطين يلاقيه في حرب المنازلة الكبرى، ومثلهما حيث تيسّر ذلك في سورية والعراق وإيران واليمن وسواها.
– الركيزة الثالثة، هي التفكير في التحديات دائماً كفرص، وليس القصد سياسياً أو استراتيجياً هنا فقط، بل عسكري بالأساس؟ فكيف يصير التفوق الناري «الإسرائيلي» فرصة؟ وكيف يصير التفرد الجوي «الإسرائيلي» فرصة؟ وكيف تصير قدرة الحركة البرية النوعية لـ«الإسرائيليين» وتصير الميركافا فرصة؟ وكيف يتحوّل القيد الذي تفرضه العلاقات الدولية على القاعدة التي تمثلها سورية للمقاومة فرصة؟ وكيف تصير الخلفية الأخوانية للقوة الإسلامية الأهم في فلسطين التي تمثلها حركة حماس، من مصدر قلق وتحدٍّ بمشاريع الفتن المذهبية، فرصاً؟
– تدمير دبابة ميركافا كمثل إسقاط طائرة إف16، كمثل الصبر على قدرة النار في أنفاق المقاومين لمفاجأة جيوش المشاة، كانت الأهداف التي تترجم هذه الرؤيا، التي تحوّلت خطوات عملياتية اشتغل عليها الحاج عماد نهاراً وليلاً وترجم بعضاً منها في حياته، ويواصل ترجمتها رفاق دربه وحلفاء مقاومته بعد استشهاده، ومثلها كيف تتحوّل علاقات سورية الدولية مصدراً لسلاح جديد، ومقدرات أهم للمقاومة، وخزاناً خلفياً لسلاحها، وكيف تتحول العلاقة بحماس مصدراً لاستنهاض عابر للمذاهب بين المسلمين مع النصر الكبير الذي يتكفّل وحده بإسقاط مخاطر الفتن، وخط اشتباك أكيد يجعل النار أقرب لجسد العدو الجاثم فوق فلسطين.
– الركيزة الرابعة في استراتيجية الحاج عماد عسكرياً كانت معنوية، كيف يصير ما يحسبه العدو علينا في الخسائر أرباحاً؟ وكيف يصير ما يحسبه لنفسه أرباحاً خسائر، وفي المقدمة تحويل الشهادة إلى مصدر قوة للمقاومة، يزيدها تماسكاً وثقة ويزيد من حماسة جمهورها وعطاءاته؟ وكيف يصير تمدّد العدو وتفرّده مدخلاً لاصطياده، وسبباً لاستنزافه، فحيث يرانا نخسر يكتشف أننا نكبر، وحيث يفرح بنصره، سرعان ما يكتشف أنّه عالق في مصيدة؟
– مدرسة الحاج عماد العسكرية أنجزت التحرير ومن بعده النصر في تموز 2006، ولا زالت تنجز، ولا زال ميزان الردع الذي أسسه للمقاومة ينمو وينتج المزيد من المعادلات، ولا زالت مسيرته نحو فلسطين، مستمرّة، بمزيد من توطين تكنولوجيا الصواريخ والعبوات والأنفاق والشبكات السلكية، التي لا نعلم عنها إلا ما يقوله العدو عن مصانع الصواريخ، والعبوات الذكية والكورنيت والياخونت والـ«إس 300». وما يقوله العملاء عن شبكات الاتصال التي يزعمون أنها تربط صنعاء وطهران ببيروت، وما يقوله المستوطنون عن أصوات الحفر تحت منازلهم في أنحاء عديدة من فلسطين، وعندما يأتي يوم الزحف إلى فلسطين سنتعرّف بالعين المجردة على ما لا نعلمه اليوم.