سياسة الصين المعاصرة وقواعدها العسكرية
أسامة العرب
بدأ نفوذ السياسة الصينية الخارجية المميّز والفريد من نوعه بالظهور على الساحة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، وتفكّك المنظومة الشرقية في الصين، وهو ما عُرف بالموجة الديمقراطية الثالثة. ذلك أن الصين عرفت منذ العام 1976 مجموعة من التحوّلات السياسية العميقة على المستويات كافة، لا سيما على صعيد تدبير شؤون الدولة والمجتمع. فبعد وفاة ماوتسي تونغ، شهدت الساحة الصينية صراعاً على السلطة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي داخل القيادة السياسية للحزب الشيوعي، وقد حُسِم الأمر خلال الدورة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة في نهاية عام 1978 بتولّي دنغ تشاو بينغ القيادة، حيث تولّى مهمة إعادة الإعمار وتنظيم البيت الصيني من الداخل، مركزاً على تعديل القانون الانتخابي، ومقراً قانون مكافحة الفساد ومغيّراً فكر النخبة الحاكمة. كما قام دنغ بإرساء أسس التعاون مع الولايات المتحدة، وببناء علاقات دبلوماسية معها لأول مرة في التاريخ. ويمكن القول إن الصين شهدت إصلاحات سياسية هامة أوائل الثمانينيات، وبالتحديد في أيلول 1982، إبان المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي، خصوصاً بعدما تزايد دور المجتمع المدني والحركات الاجتماعية، وكانت سبباً في مشاركة فئات كثيرة للحكم. وقد تمثلت الأهداف العليا للحزب الشيوعي آنذاك بتوسيع هامش الديمقراطية والحريات، وبمكافحة الفساد والمحسوبيات من أعلى الهرم إلى أسفله. وكانت الرغبة حينها ترمي إلى إخراج المجتمع الصيني والنظام السياسي من طابعه الأسري البحت، وإلى جعل العلاقات السياسيّة السلطويّة مبنيّة على قاعدة القانون والمؤسسات. ولهذا أخذت العلاقة التقليدية بين السلطة والمجتمع فترة طويلة، حتى ازدادت نسبة الوعي الثقافي في الصين، وصمد بنيانُها في معركة البناء والتفرُّد الحضاريين إلا أن الإصلاحات فتحت مجالاً للحوار حول أهم القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وأدّت إلى التوصّل لصيغة ملائمة توفّق بين النظام السياسي والتخطيط المركزي، وتعزّز فرص المشاركة الشعبية من أجل الوصول إلى تحقيق النهوض الديمقراطي الشامل والانفتاح على الخارج. هذا التحوّل السياسي الكبير والتغيير في النخب الحاكمة، ولو بدا هادئاً ومتدرجاً إلا أنه رجّح كفة الإصلاح السياسي بشكل دائم حتى تتجذر الديمقراطية في الصين مستقبلاً. وقد قام القائد الجديد جيانج زيمن في المرحلة الإصلاحية الثانية بإعادة التلاحم بين قطاعات المجتمع الداخلي، وبين كوادر الحزب والتكنوقراط، والمثقفين والجماهير، وكوادر الجيش. وأعاد تطبيع العلاقات التي انقطعت لوهلة عام 1989 مع الغرب، لاسيما مع الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك على خلفية دعمهم المظاهرات الطلابية الرامية لتغيير الحكم في البلاد آنذاك.
أما التحولات السياسية العميقة، فقد ابتدأت مع الجيل الرابع، بقيادة هو جين تاو، الذي بنى مستقبل الصين على توجّهات وأفكار قوامها وجوب التحول قوة عظمى على الصعيد الدولي، مع المحافظة على الإصلاحات الإدارية والسياسية المحققة سابقاً. وقد شكل المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني، نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الصين الحديث وتوجّهاته الخارجية، ترجم ذلك من خلال بناء كوادر جديدة وقيادات من الصف الأول، بعد أن قام جيانج زيمن بتسليم السلطة سلمياً إلى جين تاو، وبعدما تمّ إرساء قواعد الدولة الحديثة، وهيكليتها السياسية والإيديولوجية المختلفة، والقائمة على منسوب كبير من الحريات الديمقراطية، وعلى الاعتماد على الجيل الشبابي، وعلى تطبيع العلاقات مع العالم الخارجي، لاسيما مع الولايات المتحدة. وفي البداية، لم يكن الدور الصيني يتعدّى حدود الحياد وعدم التدخّل في النزاعات الدولية وممارسة القوة الناعمة، والتشديد على قيم التسامح والتعاون المتبادل وتعزيز المنفعة بين الشعوب، والعمل على حلّ المشكلات الدولية بالطرق الدبلوماسية. لكن سرعان ما تغيّر الوضع مع تأييد الولايات المتحدة لتايوان، من أجل ممارسة ضغوط على الصين، رغم تطبيع العلاقات معها. حيث كانت الصين وما تزال ترفع شعار دولة واحدة بنظامين، للإشارة إلى وجوب بقاء تايوان في حضن وطنها الأم الصين، أي عدم انفصالها عنها واستمرار تمتّعها باستقلال ذاتي إداري، كما هو الحال مع هونغ كونغ. غير أن السياسة الأميركية المتقلّبة مع كل فترة رئاسيّة جديدة، زعزعت العلاقة مع الصين ودفعتها للمسارعة لتعزيز قواها من خلال منظمة آسيان وملتقى شنغهاي وتجمّع دول البريكس، وإلى بناء علاقات استراتيجية وتحالفات مميّزة مع روسيا وإيران. وكل ذلك للتأكيد بأن لا وجود لشيء اسمه قوة أحادية مهيمنة على الشؤون العالمية، وإنّما تحالفات دولية من شأنها أن تحفظ موازين القوى. كما عملت الصين على تطوير استراتيجيتها العسكرية خارج حدودها، دونما اكتفاء بالاستراتيجيات الدفاعية. وقد بنت أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، والثانية في باكستان، والثالثة في طور الإعداد في أفغانستان، في خطوات ترمي لفتح الباب أمام بناء قواعد عسكرية جديدة. كما تعوّل الصين على بناء قواعد بحرية عسكرية أيضاً، حيث يجري العمل على قدم وساق لبناء قاعدة بحرية في منطقة جيواني الباكستانية بالقرب من الحدود الإيرانية، ذلك أن الصين بحاجة لدعم إيران في ظل تضعضع علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها وخوفها من عمليات إرهابية تكفيرية تطال طريق الحرير الذي تعمل على إنشائه، والذي يرمي لربط الصين بـ 60 دولة في قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. كما تخشى أيضاً من العمليات التخريبية لهذا المشروع الذي يرمي لبسط النفوذ الصيني من المحيط الهادئ شرقاً إلى الدول الشرق أوسطية والأوروبية غرباً، وللتقليل من النفوذ الأميركي في تلك المناطق. ويتركّز خوف الصين عموماً من جماعات الأويغور المتطرّفة التابعة لحركة تركستان الشرقية، من منطقة واخان إلى شينجيانغ، ومن العناصر الإرهابية الداعشية المتسللة إلى أفغانستان بعدما تمّ تطهير العراق وسورية منها، والتي قد تتسلل لاحقاً إلى واخان لتهدّد المصالح الصينية. ولذلك، تشدّد الصين بأنها بحاجة إلى أفغانستان آمنة من أجل الحفاظ على مصالحها، كما تُشدّد على الحفاظ على العلاقة المميّزة مع كل من روسيا وإيران في مجال مكافحة الإرهاب.
على الجانب الآخر، تسعى الصين لبناء الاستقرار في الشرق الأوسط، ولممارسة الضغوط الدولية الفاعلة لوقف الحروب فيها، ولحضّ «إسرائيل» على حل القضية الفلسطينية على قاعدة الدولتين وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، ولإعادة إعمار ما هدمته الحروب، ولتعزيز ثقافة الحوار المتبادل بين المكوّنات الثقافية والحضارية المختلفة.
وفي ضوء تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، ترقب الصين صعودها الحقيقي وهيمنتها على منطقة المحيط الهادئ وبسط نفوذها بشكل مباشر وغير مباشر في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقاً من اعتبارها بأن الوقت مسألة ثانوية لا أهمية لها، إذ سأل أحدهم في السبعينيات رئيس الوزراء الصيني السابق تشو إن لاي عن رأيه في الثورة الفرنسية، فأجابه من المبكر الآن أن نعرف، في إشارة منه إلى أن النفوذ الفرنسي سوف يتدهور مع الوقت مستقبلاً.