حالات مفاهيمية فلسفية في معرض الفنان التشكيليّ محمود الجوابرة
محمد سمير طحان
يقدّم الفنان التشكيليّ محمود الجوابرة ما اختزنه بداخله خلال سنوات الحرب على سورية عبر معرضه المقام في «صالة آرت هاوس» حالياً، حيث يبحث من خلال الشكل واللون في أعماق النفس البشرية من منطلق فلسفيّ فكري فنّي يربط الواقع بالثقافة والتاريخ.
يضمّ المعرض 22 عملاً فنّياً بأحجام متنوعة مستخدماً أسلوباً تعبيرياً بتقنية مختلفة المواد من الرسم على القماش، توزّعت على مجموعتين بعنوان «شاهد على العصر» و«ليل العالم»، حيث أبرز ثيمة الإنسان الثور، بمدلولات مفاهيمية وفلسفية يمكن إسقاطها على الواقع في زمن الحرب مع أعمال عدّة ضمّت مشاهد من الميثولوجيا الشرقية والأسطورة السورية القديمة مع تنويعات في وجود الأنثى بعدد من اللوحات بحالة جنائزية لا تخلو من فسحة الأمل.
وعن المعرض قال الفنان محمود الجوابرة في تصريح صحافي له: «يضمّ حصيلة عمل امتدت منذ عام 2013 وحتى نهاية عام 2016، حيث كنت خلال السنوات الماضية مسكوناً بالأزمة وبما فعلته بالإنسان السوري والعربي ومثقلاً بأسئلة كثيرة جداً لم أستطع أن أجيب عليها إلا من خلال هذه الأعمال».
ولفت الجوابرة إلى أنّ مجموعة «شاهد على العصر» تضمّ عشرة أعمال طرح من خلالها أسئلة وجدها مهمة للغاية حول إعادة إنتاج الأسطورة ومكوّناتها من الإنسان والثور والمسخ، مستفيداً من العودة إلى الشاعر الروماني أوفيد قبل ألفَي عام وكتابه «مسخ الكائنات».
وأوضح الجوابرة أنّ تجّليات الشاعر أوفيد ظهرت لدى رواية «فرانس كافكا» المسخ التي جاءت نتيجة حالته النفسية المتردّية ومرضه وضغوط مجتمعه عليه فحوّل الإنسان إلى صرصار عملاق، وأشار إلى أنّه حاول في معرضه استخدام الثور الموجود في الحضارات القديمة كرمز للخصب والقوة بصورة جديدة ترمز للبهيمية والحيوانية والتوحّش كمعادل موضوعي للانسان.
الجوابرة الذي فقد مرسمه في مدينة درعا عام 2012 جراء الإرهاب غادر إلى دمشق وأقام فيها. وعمل على تقديم هذا المنجز الفنّي اليوم بعد اشتباك مع ثقافات عديدة على حدّ تعبيره. تجربته «شاهد على العصر» ضمّت إلى جانب الثور الرؤوس المقطوعة تعبيراً عن السيميائية المذعورة التي حوّرت وطوّرت وأعادت إنتاج الهوية الإنسانية بطريقة مختلفة عمّا كانت في السابق.
وقال الجوابرة: إنّ السوداوية التي طغت على كل لوحاته كانت نتيجة لهذه الحرب التي قرعت طبولها بعظامنا فلم يبق لدينا ما يمكن أن يُقال عن هذه الحرب الملعونة والمتوحّشة.
وأمّا المجموعة الثانية التي تضمّنها المعرض «ليل العالم» فيشير الجوابرة إلى أنّ فيها الكثير من التوحّد وتقديم السواد الذي لمسه من خلال تحطيم الصورة وإعادة إنتاجها من جديد بطريقة مباشرة عبر بعض الأعمال، كما أنّه قدّم المرأة بطريقة جمعت التعبيرية والجمال والتاريخ، فنجد تلك النساء كأنهنّ من حضارة السومريّين بلباسهن الأسود تعبيراً عن الحداد، وهذا ما نلمسه في لباس نساء حوران الشعبي الذي استمر عبر التاريخ حتى هذا اليوم. وهذه اللوحات تحمل شارات وملامح ورموزاً تعبيرية عالية.
لم ينسَ الجوابرة ملحمة «جلجامش» الأسطورية التي شكّلت ثقافتنا حول الأسطورة السورية القديمة، حيث يشير إلى أنّه قدّم لوحة واحدة مرتبطة بهذه الأسطورة وبالميثولوجيا الدينية عبر تجسيد «انكيدو» صديق «جلجامش» خلال بحثه عن زهرة الخلود كي يشير إلى التاريخ والمعنى الثقافي الذي يتركه مع الزمن.
كمّا قدّم الجوابرة لوحة لـ»الدونكيشوت» لينبّه إلى فكرة الفارس الجوال الذي ذهب كي يصارع طواحين الهواء، حيث اعتبر أن الوهم هو من بين القيم الكثيرة التي سيطرت على عدد من الناس خلال الحرب على سورية.
وقال الجوابرة: حاولت طرح عدد من الأسئلة من خلال لوحاتي على المشاهد المثقف لعلّ رسالتي تصله عبرها. فصناعة اللوحة النهائية المعبّرة عن كلّ ما جرى في هذه المرحلة هو أمر لا يجوز طالما أنّ الحرب لم تنته بعد.
وحول مسألة بيع واقتناء الأعمال الفنّية، قال: بيع الأعمال أمر مهمّ للفنان رغم أسعارها البسيطة قياساً بما كان يقدّم قبل سنوات الأزمة، ووزارة الثقافة حقّقت نقلة نوعيّة مؤخراً في مسألة سعر اقتناء اللوحات في المعرضين السنويّين اللذين تقيمهما رغم ما تعانيه من ضغوط مادية كبيرة.
وعبّر الجوابرة عن تفاؤله بمستقبل الفن السوري ليختم بالقول «لا أقدم رؤية سوداوية ومظلمة عبر أعمالي فالحياة فيها الليل والنهار وهناك تعاقب دائم بينهما لذلك رسمت الظلام كي يأتي النور ليمحوه خاصة أنه كان عبئاً كبيراً علينا خلال الفترة الماضية»، لافتاً إلى أنه بدأ يشعر بقدرته على إشعال شمعة ونار المجد لتضيء ما حوله.