حزب الله والمقاومة الإسلامية من منظور قومي عربي
زياد حافظ
عندما نتكلّم عن المقاومة الإسلامية في لبنان نتكلّم عما نعتقده أنها من أنبل مظاهر الحياة عند العرب والمسلمين منذ الربع الأخير من القرن العشرين. فهي تلك المقاومة التي أنجزت ما لم تستطع إنجازه قوى التحرّر العربية منذ نشأة الكيان الغاصب. فاستطاعت دحر العدو الصهيوني من لبنان بدون تفاوض، وأصبحت قوّة رادعة له غيّرت في قوانين الاشتباك معه، وفي ميزان القوة في الصراع العربي الصهيوني، وعلى مستوى الإقليم، وبالتالي على مستوى العالم أجمع. فهي التي دافعت ولا تزال تدافع عن لبنان في مواجهة أطماع العدو، والتصدّي للتهديدات الصادرة عن جماعات التعصّب والتوحّش والغلوّ التي تدعمها قوى الاستعمار القديم الجديد والصهيونية ومعها للأسف بعض الدول العربية، وهذه إنجازات لا يمكن استيعابها إلاّ مع الوقت.
في هذه المداخلة سنحاول الإجابة على سؤالين متكاملين: السؤال الأول هو كيف نقيّم المقاومة الإسلامية من منظور قومي عربي والسؤال الثاني هو ما هي أسباب نجاح حزب الله العمود الفقري للمقاومة الإسلامية، وهو حزب إسلامي شيعي، حديث الولادة نسبياً في الفضاء السياسي العربي، في إنجاز عمل أسطوري في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، ألا وهو تحرير أرض عربية محتلّة بدون تفاوض واعتراف وصلح.
الجزء الأول كيف ننظر إلى المقاومة الإسلامية من منظور قومي عربي؟
بالنسبة لنا، الإجابة واضحة وبسيطة من جهة وعميقة في بعدها. المقاومة الإسلامية في رأينا جزء لا يتجزّأ من حركة التحرّر القومية العربية. فحزب الله، العمود الفقري للمقاومة الإسلامية حزب إسلامي وحزب عربي في آن واحد. ليس هناك من انفصام أو انشطار بين المكوّنين للحزب، أيّ إسلاميّته وعروبته. فبغضّ النظر عن المخاض الذي مرّ به حزب الله ليصل إلى ما هو عليه اليوم فإننا نعتبر المقاومة الإسلامية جزأ من حركة التحرّر في الأمة العربية.
قد يستغرب البعض ويسأل لماذا وكيف؟ والإجابة رهن قراءة التاريخ. الحركة التحرّرية العربية التي قادتها الحركة القومية العربية لها مكوّنات متعدّدة. المكوّن الأول هو ما يمكن تسميته بالسلالات القومية العربية التقليدية من ناصرية وبعثية وحركية عن حركة قوميين العرب . المكوّن الثاني هو التيّار الإسلامي بمختلف تشكيلاته. المكوّن الثالث هو التيّار اليساري بمختلف تشكيلاته أيضاً. وأخير المكوّن الليبرالي. لكن التيّارين الرئيسيين هما التيّار الأول والثاني.
الحركة التحرّرية العربية ولدت من رحم النهضة العربية والإسلامية في القرن التاسع عشر. في البداية كانت حركة النهضة ردّة فعل على محاولات الغزو الأوروبي واحتلاله للأرض في المشرق والمغرب العربي. المحور الاستراتيجي إذا جاز الكلام لتلك الحركة النهضوية كانت عبر اللجوء إلى الدين وتحديثه في مواجهة التحدّيات وذلك في كنف السلطنة العثمانية. أما الأخيرة فواجهت تحدّي الغزو الأوروبي عبر مشروع التنظيمات. في العقود الأخيرة من حقبة السلطنة ظهرت تيّارات تحاول تتريك الولايات العربية. كانت ردّة الفعل تحريك الشعور العروبي الذي لم يغب عن مكوّنات الأمة رغم نظام السلطنة وقبله نظام الخلافة. تلازم وتكامل التيّار الإصلاحي الديني مع التيّار العروبي حتى الحرب العالمية الأولى. فعلى سبيل المثال كان جمال الدين الأفغاني من روّاد الإصلاح الديني كما كان أيضاً من روّاد الحركة القومية العربية.
بعد الحرب العالمية الأولى وقع حدثان مفصليان في تاريخ الأمة. الحدث الأول هو انتزاع الولايات العربية من السلطنة العثمانية ووضعها تحت الانتداب الأوروبي. والثاني هو إنهاء السلطنة عام 1924. عشية الحرب العالمية الثانية كانت جميع الأقطار العربية تحت قبضة الاستعمار الأوروبي المباشر مع استثناء بعض الأقطار من الجزيرة العربية وإنْ لم تكن خارج النفوذ الأوروبي.
لذلك تحوّلت الحركة العروبية التي ولدت من رحم النهضة إلى حركة تحرّرية من قبضة الاستعمار. أصبحت الأولوية للتحرير بدلاً من الدعوة والإصلاح الديني. لم يغب التيّار الإسلامي عن المشهد ولكن لم تكن له الصدارة في الصراع مع المحتلّ الأوروبي.
هنا لا بدّ لنا من أن نتوقف عند نقطة في غاية الأهمية وهي العلاقة بين العروبة والإسلام لما أثارت من لغط في العديد من أوساط النخب المثقّفة العربية. العروبة في الأساس هوية وليست برنامجاً سياسياً أو نهجاً سياسياً وإنْ استلزم الدفاع عن الهوية العمل السياسي فشكّل ما نعرفه بالقومية العربية. وهذا العمل كان تاريخياً وما زال يسعى إلى تحقيق الاستقلال الوطني وتحرير الأرض من المحتلّ الغربي والصهيوني، وإقفال القواعد العسكرية الأجنبية، ووحدة الأمة التي تجزّأت بفعل التاريخ الاستعماري وارتباط النخب الحاكمة بسياسات الاستعمار، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وحرّية المجتمع التي تكمن في التحرّر من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. كما أنه انتهج سياسات للدفاع عن تراثها ومبادئها تجاه الغزو الفكري والثقافي المدمّر لمجتمعاتنا ومدمّر أيضاً للمجتمعات الغربية التي تصدّرها لنا. لذلك، فإنّ القومية العربية حركة تحرّرية أولاً ووحدوية ثانياً، ومتطلّعة إلى نهضة الأمة ثالثاً.
وللحركة القومية العربية مسارات: منها الناصرية، ومنها البعثية، ومنها النابعة من حركة القوميين العرب. واليوم فتتجسّد في أدبيات مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي التي تعرّف بالعروبي كلّ من ينطق باللسان العربي ويؤمن بالمشروع النهضوي العربي بأبعاده الست. الوحدة في مواجهة التجزئة، الاستقلال الوطني في مواجهة التبعية، المشاركة الشعبية في مواجهة الاستبداد، التنمية في مواجهة التخلّف، العدالة الاجتماعية في مواجهة التفاوت بين مكوّنات المجتمع، وأخيراً التجدّد الحضاري في مواجهة التغريب الناتجة عن صراع عبثي بين الأصالة والحداثة. وفي طبيعة الحال، البوصلة الموجّهة للعمل القومي العربي هي فلسطين، أيّ تحريرها من البحر للنهر واسترجاع كافة الحقوق المسلوبة والمغتصبة من الشعب الفلسطيني عبر سنوات الاحتلال الصهيوني. قيادات وكوادر من المقاومة الإسلامية أعضاء في المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي.
الجزء الثاني: أسباب نجاح المقاومة الاسلامية
لم تأت المقاومة من الفراغ بل ولدت من رحم تجربة المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية بمختلف تشكيلاتها القومية واليسارية. لكن ما يميّز تجربة المقاومة الإسلامية عن سابقاتها هو استفادتها من تجارب سبقتها إضافة إلى رؤية واستراتيجية واضحة الملامح والأهداف وصوغ تحالفات عربية سورية وإقليمية إيران ساهمت في نجاحها. وهذه التحالفات لم تكن موجودة أو ممكنة في الحقبات السابقة مما يجعل المقارنة بها صعبة أو غير متكافئة. كما أنّ نوعية قيادات المقاومة في المناقبية، والالتزام، والجاذبية الشخصية كاريسما ، جعلت القاعدة الشعبية تلتفّ حولها وتواكب المسيرة وتتحمّل وزر التضحيات الكبيرة دون تردّد. وما زالت حتى الآن تقوم بحماية المقاومة ودعمها. وتذكّرنا بحقبة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر حيث التفّت جماهير الأمة حوله في السرّاء والضرّاء وأحيت مجدّداً حلم النهضة العربية.
الميزة الأولى لهذه القيادات وكوادرها هي إيمانها: بالله أولاً، وبقدراتها وتنمية القدرات على مدار الزمن ثانياً، واستقلاليتها ثالثاً. فيمكن وصف هذه المقاومة تلازم الإيمان والعلم على تنمية القدرات والتخطيط والتنفيذ والاستقلالية في أخذ القرار وتوقيته. صحيح أنّ المقاومة الوطنية التي سبقتها انطلقت دون أخذ إذن من أيّ طرف ولا وفقاً لحسابات موازين قوة بل بسبب قناعات متجذّرة. فالمقاومة التي تصدّت للتقدّم الصهيوني على مدخل المتحف في بيروت والتي انطلقت من طريق الجديدة، والمدينة الرياضية، والأعمال البطولية المنفردة كواقعة الويمبي، كانت بقناعات وليس بحسابات. غير أنّ استمرارها كان رهن دعم إقليمي ودولي أتى معاكساً لوجودها أو تثبيتاً لغياب العديد من فصائلها. كما أنّ بعض قيادات هذه المقاومة الوطنية في لبنان كانت لها تقديرات وطموحات سياسية أبعدتها عن ميدان المواجهة مع الكيان ما لقّن ضربة قاسمة لباقي المجموعات المقاومة.
في المقابل استطاعت المقاومة الإسلامية، وهذه هي الميزة الثانية، نسج علاقات تحالفية عربية سورية وإقليمية إيران لم تستطع المقاومة الوطنية في لبنان وفي فلسطين إحرازها رغم دعم العديد من الدول العربية كالعراق وليبيا في السبعينات والثمانينات لفصائل المقاومة الفلسطينية وفصائل وطنية لبنانية. غير أنّ هذا الدعم العربي لتلك الفصائل والقوى انعكس في التجاذبات المتناقضة التي أضعفت زخم مواجهة العدو الصهيوني. أما الحليف العربي للمقاومة الإسلامية، أيّ سورية، فدعم المقاومة الإسلامية رغم التنافس مع حركة أمل إلى أن حُسمت إشكالية التعدّد في الفصائل المقاومة للعدو الصهيوني والتي أربكت مسار النضال الفلسطيني الذي عكس أيضاً التجاذبات العربية بينها.
الميزة الثالثة هي التحوّل التدريجي في خطاب حزب الله منذ بداية كان جوهرها ديني مذهبي إلى خطاب وطني وعروبي تستطيع المكوّنات المتعدّدة للمجتمع اللبناني والعروبي الالتفاف حول المقاومة الإسلامية. واليوم إذا ما نظرنا إلى خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، حفظه الله، وسائر قيادات الحزب نجد أنّ متن الخطاب السياسي هو خطاب وطني وعروبي مع خصوصيته. وهذا الخطاب قد لا يختلف عن الخطاب القومي العربي التقليدي في القضايا الكبرى للأمة العربية كمواجهة القوى الامبريالية أو قوى الاستكبار، وكمواجهة العدو الصهيوني، وكوحدة الموقف العربي في الحدّ الأدنى، وحتى في ملامسته للقضية الاجتماعية للمواطن اللبناني كونه إنسان أولاً وليس فقط منتمياً إلى طائفة أو مذهب.
الميزة الرابعة هي حرص المقاومة الإسلامية أن تكون بندقيتها موجّهة فقط للعدو الصهيوني فقط وليس إلى الداخل اللبناني. انعكس هذا التوجّه في المحاولة المستديمة في عدم الانغماس في متاهات ودهاليز وأوحال السياسة الداخلية. حرصت قيادة المقاومة ألاّ تنجر إلى صراعات للوصول إلى السلطة كما حصل عند العديد من الفصائل المقاومة التي سبقته سواء كانت فلسطينية أو لبنانية أو حتى حزبية عربية.
الميزة الخامسة تكمن في ميزان القوة. فميزان القوة الدولي والإقليمي على الصعيد السياسي كان مختلفاً في الثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة عمّا كانت عليه في العقود الأربعة التي سبقت انطلاقة المقاومة الإسلامية. فالتحوّل الاستراتيجي الذي حصل في أواخر السبعينات هو نجاح الثورة الإسلامية في إيران في خلع الشاه وإسقاط نظامه. فالثورة الإسلامية وضعت أولوية تحرير فلسطين في واجهة برنامجها السياسي. هذا التحوّل أخلّ بميزان القوة السياسي والأمني على الصعيد الإقليمي لمصلحة جبهة مناهضة للهيمنة الأميركية الصهيونية. فخروج مصر من دائرة الصراع قابله دخول الجمهورية الاسلامية في الصراع. وإيران دولة إقليمية كبيرة تتمتّع بإمكانيات اقتصادية وعسكرية لا يمكن الاستهانة بها. صحيح أنّ السنوات الأولى للجمهورية الإسلامية كانت مليئة بالصراعات الداخلية والخارجية كالحرب العبثية مع العراق، ولكنها، في أواخر الثمانينات، استطاعت أن تنهي الحرب وتواجه التحدّيات الداخلية والخارجية رغم الحصار الدولي والإقليمي المفروض عليها منذ إقامتها.
أما على الصعيد العربي فكان الدعم السوري للمقاومة ينسجم مع التحالف الذي عقده الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الجمهورية الإسلامية لإيجاد الحدّ الأدنى من التوازن الجيوسياسي في مواجهة الكيان والذي برهن فعّاليته فيما بعد في الحرب الكونية القائمة منذ 2011 على سورية. فهذا التحالف مكّن سورية من الصمود وساهم في قلب ميزان القوة الدولي. يكفي أن نلحظ أنّ ذلك التحالف بين سورية والجمهورية الإسلامية كان عاملاً حاسماً في دعم ونجاح المقاومة الإسلامية. المهمّ هنا هو أنّ تضافر القوة المحلّية مع الحليف السوري والإيراني استطاع أن يغيّر في الميزان الدولي بقدرات ذاتية لم تكن موجودة أو ممكنة في الحقبات السابقة.
الجزء الثالث: التحوّل في ميزان القوّة
ما مكّن نجاح هذا التحوّل عدّة عوامل. العامل الأول بداية تراجع وأفول القوى العظمى. فمع تراجع وسقوط الاتحاد السوفيتي انفردت الولايات المتحدة في الزعامة العالمية. غير أنها لم تحسن استعمال الظرف الجديد. وقد كتبنا في السابق أن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة كشف العورات البنيوية في الولايات المتحدة على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي. فالحرب الباردة كانت تخفي هذه العورات وخاصة العورة السياسية التي لم تحسن مواكبة التطوّرات الداخلية في البنية الاقتصادية والسكّانية فوقعت فيما هي عليه اليوم والتي حلّلناها في عدة أبحاث يمكن الرجوع إليها. المهمّ هنا أنّ مسار الأفول بدأ منذ أن اتخذت الولايات المتحدة قرار التحوّل في منتصف السبعينات من دولة صناعية تنتج السلع التي يحتاجها العالم إلى دولة خدماتية واقتصاد افتراضي على حساب القاعدة الإنتاجية التي مكّنتها في السابق لتصل إلى ما كانت عليه.
العامل الثاني الذي نتج عن بداية التراجع عند القوى العظمى هو الإدراك عند قيادة المقاومة أنّ النجاحات النسبية التي حققتها مصر وسورية عام 1973، في ظلّ ميزان قوة دولي متوازن نسبياً وحدّ أدنى من التضامن العربي، يمكن البناء عليها. كما أنّ إخفاقات العدو الصهيوني كشف إمكانية هزمه عسكرياً إذا ما توفّرت الإرادة، ووضعت الخطة، وتمّ توفير عناصر نجاح الخطة من عدة وعتاد وجدّية. فإذا التوازن النسبي في ميزان القوة على الصعيد العالمي جعل ممكناً تحقيق بعض الإنجازات فما هو الحال إذا بدأ ذلك الميزان يميل لمصلحة جبهة مناهضة للهيمنة الغربية الداعمة للكيان الصهيوني؟
العامل الثالث الذي ساهم في تغيير ميزان القوة على الصعيد الدولي هو تردّي نوعية القيادات في الغرب وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة. فهذه القيادات أضاعت فرصة تحصين انتصار الغرب على الاتحاد السوفياتي عبر دخولها في قضايا إقليمية معقّدة استنفذت قدراتها السياسية كمحاولة فرض السلام في الشرق الأوسط لمصلحة الكيان الصهيوني وعلى حساب حقوق الشعب الفلسطيني. قيادات عربية وفلسطينية ساهمت في تلك المحاولات. ولكن في آخر المطاف أدّى ذلك الانصراف إلى ابتعاد الولايات المتحدة عن متابعة مجريات الأمور في كلّ من روسيا والصين. وهذا ما أعطى الفرصة لتلك الدولتين لإعادة بناء قدراتها بالنسبة لروسيا، ولتحقيق معدّلات نمو قياسية بالنسبة للصين، أعادت حجمها فدورها إلى الواجهة السياسية على الصعيد الدولي.
العامل الرابع الذي ساهم في تعديل ميزان القوة لصالح الجبهة المقاومة والممانعة للكيان الصهيوني والهيمنة الغربية، وان لم تكن واضحة معالمه في العقود السابقة، هو تراجع تعاطف الشعوب والمجتمعات الغربية وفي العالم مع الكيان الصهيوني ما يغيّر في ميزان القوة الحالية. هذا ما تشير إليه بوضوح العديد من استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة وفي أوروبا. وهذا التغيير يعود إلى ثلاثة أسباب: السبب الأول هو السياسات الحمقاء لقيادات الكيان في التعاطي مع لبنان ومع الشعب الفلسطيني، والثاني تنامي وسائل التواصل الاجتماعي والإلكتروني التي تمكن من فضح جرائم العدو، والثالث صمود الشعب الفلسطيني وصمود المقاومة في لبنان رغم كلّ ما بُذل من جهد لسحق المقاومة. هذه الأسباب أدّت إلى فقدان ركيزتي وجود الكيان الصهيوني أيّ الأمن والرخاء للصهاينة في فلسطين. فمع فقدان تلك الركيزتين بسبب المقاومة الإسلامية التي تتلاحم مع مقاومة الشعب الفلسطيني المستمرّة بدأت موجة الهجرة المعاكسة من الكيان نحو الخارج. وهذا تحوّل في غاية الأهمية يؤكّد صحّة تقدير سيّد المقاومة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أنّ الكيان الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت.
أما العامل الخامس في تعديل ميزان القوّة السياسي فيعود إلى سوء تقدير الولايات المتحدة في توسيل الإسلام في محاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان فساهم في خلق الشبكات الإرهابية التي تعصف حالياً في العالم وتضعف الغرب عبر فقدان مصداقيته وقدرته على مواجهة الوحش الذي أوجدته. في المقابل فإنّ الصحوة الإسلامية التي ولدتها الثورة الإسلامية في إيران خلقت مناخاً عربياً وإسلامياً متعاطفاً مع التيّار الديني الصاعد سواء على صعيد أهل السنّة والجماعة أو على صعيد أنصار أهل البيت. فاعتقاد الغرب بإمكانية توسيل الإسلام لتحقيق أغراضه في محاربة الاتحاد السوفياتي وحركات التحرّر العربي القومية أدّى إلى ظهور الحركات الإسلامية بمختلف تشكيلاتها. فالتعاطف الإسلامي مع المقاومة في لبنان كان عاملاً حاسماً في دعم المقاومة على الصعيد السياسي. فانقلب السحر على الساحر عبر تعبئة الخزّان البشري المسلم.
لكن على صعيد المواجهة مع الكيان الصهيوني كان الإخفاق الأميركي في مواكبة التطوّرات في لبنان وسورية وإيران، أو الاستهتار بها، ساهم في تنامي قوّة المقاومة. الفرق بين هذه الحقبة وحقبة الرئيس عبد الناصر هي أنه في المرحلة السابقة كانت الولايات المتحدة تنظر إلى العالم من منظور حرب الباردة. فكانت تترقّب من يهادن الاتحاد السوفياتي ومعسكره وبالتالي تحشد القوى لمقاومة ذلك الانحياز. فلما حاول جون فوستر دالاس تجنيد القيادة الجديدة في مصر بعد الثورة عام 1952 إلى معسكر حلف بغداد لم تكن نظرة الولايات المتحدة سلبية تجاه الثورة. بل ربّما رحبّت بها كونها تضعف النفوذ البريطاني. لكن عندما رفض الرئيس جمال عبد الناصر الانخراط في حلف بغداد ومعاداة الاتحاد السوفياتي كانت ردّة الفعل الأميركية برفض تسليح الجيش المصري فكانت الصفقة مع تشكوسلوفاكيا التي كسرت احتكار السلاح. تبع ذلك القرار المعبّر عن استقلالية مصر ردّ الولايات المتحدة بالضغط على البنك الدولي لسحب قرار إقراض مصر لبناء السدّ العالي. فكان ما كان في ما بعد وتأميم قناة السويس للتأكيد على استقلالية القرار المصري. لكن رغم ذلك، وكما أشرنا سابقاً، لم توافق الولايات المتحدة على العدوان الثلاثي ما عزّز الموقف المصري.
ما بعد الاتحاد السوفياتي
أما في المرحلة التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي وإنهاء الحرب الباردة لمصلحة الغرب والولايات المتحدة فقدت الأخيرة معياراً أساسياً تبني عليها سياساتها. فكان عدم الاهتمام في ما كان يحصل في روسيا والصين والانغماس في محاولات بائسة لفرض سلام في المنطقة على حساب الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني. فشل تلك السياسة يعود إلى تعنّت العدو وإلى صمود الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية، وخاصة الرئيس الشهيد والرمز للثورة الفلسطينية ياسر عرفات، في وجه الضغوط الهادفة للتنازل عن حق العودة والقبول بيهودية فلسطين. نظرة الولايات المتحدة للمقاومة الإسلامية كانت نظرة دونية ومجرّد عنصر إزعاج حاولت تحييدها عبر عمليات إرهابية كتفجير بئر العبد في آذار/ مارس 1985. كما أنّ ثقتها في قدرة الكيان الصهيوني على ضبط إيقاع المقاومة جعلت الولايات المتحدة تصرف أنظارها عن المقاومة وتعمل على الحفاظ على الوضع القائم في المنطقة بعد حرب تحرير الكويت عام 1991. فكانت الخيبة الأميركية بالأداء الصهيوني في معركة تحرير لبنان وفي ما بعد في صدّ العدوان الأميركي على لبنان عام 2006 بأيدي الكيان الصهيوني.
استطاعت القيادة السورية مراعاة بعض المصالح الأميركية لتجنّب شرّها. من هنا يمكن فهم مشاركة القوّات السورية في تحالف حفر الباطن وإنْ كان السجال حولها آنذاك كبيراً بين صفوف العروبيين والمقاومين. لكن يمكن القول إنّ درء الخطر المباشر عن سورية خاصة في حقبة سقوط الاتحاد السوفياتي مكّنها من دعم المقاومة حتى النصر وفي ما بعد في مواجهة العدو في تموز/ يوليو 2006. ما ساعد سورية في عملية تخفيف عدم التوازن السياسي على الصعيد الدولي الغطاء العربي التي حصلت عليه بسبب وبعد اتفاق الطائف ولرعاية تنفيذه. مرّة أخرى كان التوافق العربي عنصراً هاماً في نجاح استراتيجية المقاومة وإنْ لم يكن هدف التضامن المضيّ بدعم المقاومة. فالرهان كان على ما سُمّي بعملية السلام واتفاق أوسلو جعل اعتبار المقاومة الإسلامية غير ذي جدوى إلى أن تحقّق النصر عام 2000. في المقابل كانت قناعة الرئيس الراحل حافظ الأسد أنّ محاولات فرض السلام لن تنجح كما بيّنته وثائق ويوميات مستشارته الدكتورة بثينة شعبان. كان يعلم الرئيس الراحل أنّ الأميركيين غير جادّين في السلام، وأنّ قيادة الكيان لا تستطيع المضيّ في عملية السلام. فواكب الرئيس كلّ المحاولات لحق الكذّاب على باب الدار! إلى أن انسحب من تلك العملية كلّ من الكيان والولايات المتحدة دون تمكينهم من تحميل سورية مسؤولية الفشل.
لكن عند ذلك التاريخ، أيّ عام 2000، تغيّر المناخ الدولي مع مجيء جورج بوش إلى البيت الأبيض حيث تولّى المحافظون الجدد السياسة الخارجية. فكان غزو واحتلال كلّ من أفغانستان والعراق ورفع وتيرة المواجهة مع الجمهورية الإسلامية ومحاولات استدراج سورية للمعسكر المناهض لإيران. لكن قد فات الآوان وتحصّنت المقاومة وتعمّق التحالف الاستراتيجي بين المقاومة وسورية والجمهورية الاسلامية. عام 2006 شهد الموقف العربي الرسمي والموقف الأميركي يغطّيان العدوان على لبنان ما أعطي للهزيمة التي مُني بها الكيان بعداً استراتيجياً كبيراً وخيبة أمل ومرارة لم يستطع أحد من ذلك المعسكر إخفاءها. وإضافة إلى ذلك ترافق ذلك الانتصار مع إنجازات المقاومة العراقية في مواجهة القوّات المحتلّة ما عجّل في وتيرة التراجع الأميركي على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي بسبب غرق الولايات المتحدة في رمال العراق.
يأخذ العديد على الحكم في سورية عدم فتح جبهة الجولان لمواجهة العدو. هذا التقييم في رأينا مجحف لأنه يأتي من باب المهاترة والمزايدة التي لا تأخذ بعين الاعتبار ضرورة تقدير دقيق لميزان القوة العسكري والسياسي والاقتصادي بين سورية والكيان. فالميزان كان يميل بشكل واضح لمصلحة الكيان. ونذكّر أنّ سورية تحمّلت الكثير من أعباء الصمود في موقفها الصامد والممانع للكيان. رغم كلّ ذلك استطاعت سورية مع الرئيس الراحل حافظ الأسد من تأسيس استراتيجية توازن تلهي الكيان الصهيوني عن متابعة الضغط عليها. فمن جهة كانت جبهة الجولان «هادئة» بينما كانت سورية تدعم المقاومة الإسلامية في لبنان بشكل أساسي ووازن. استمرّ ذلك الدعم مع الرئيس بشّار الأسد وما زال. فالتحالف الاستراتيجي مبني على رؤية مشتركة في مواجهة العدو الصهيوني وهذا هو السبب الرئيس للحرب الكونية على سورية منذ 2011.
مع تغيير ميزان القوة العسكري والسياسي تغيّرت رؤية القيادة السورية للمواجهة مع الكيان بشكل يعكس ذلك التغيير. صحيح أنّ بحثنا لا يتناول التطوّرات التي حصلت عامي 2015 و2016 ولكن قواعد الاشتباك مع العدو تغيّرت. فتوحّدت جبهة الجولان وجبهة جنوب لبنان لتردع الكيان. لم يكن ذلك ممكناً في العقود السابقة ولكنه أصبح ممكناً اليوم.
أمين عام المؤتمر القومي العربي