أبعد من صرخة: الانتخابات اللبنانية فرصة للمحاسبة

زاهر العريضي

إنّها الفرصة المؤاتية لنحاسب كمواطنين «الطبقة السياسية». الاستحقاق الانتخابي حقّنا في التعبير والرفض وإمكانية التغيير. قبل أن نسقط الورقة في صندوق الاقتراع. لنستذكر وأقلّها مرحلة ما بعد الطائف، أيّ ثمانية وعشرين عاماً من الاتجاه لبناء الدولة والمؤسسات، ماذا حدث أو تغيّر وهل ما زال الواقع كما هو.

إذا عددنا بلمحة سريعة أساسيات حقوقنا كمواطنين كيف تبدو؟ ندفع فاتورة الكهرباء المقطوعة وفاتورة المولد أو الاشتراك، ندفع كلفة المياه سنوياً ونشتري خزانات المياه، ندفع كلفة الدواليب وأعطال السيارات بسبب الطرقات غير المجهّزة من حفريّات وجور وإنارة إلخ… كما ندفع كلفة المستشفيات الباهظة ونخاف حين نضطر للدخول إلى المستشفيات لأنّ هذا القطاع أصبح يفتك بالمرضى، ناهيك عن النفايات وارتفاع نسب التلوث، غياب المطامر القانونية والبيئية، الأمر الذي يؤدّي إلى أمراض سرطانية.

الدين عام يرتفع ويزداد، القروض من البنك الدولي مرتبطة بتنازلات سياسية وابتزازات وارتهان يقابله فساد واستفادة وتعهّدات. فمنظومة الفساد في «ما يسمّى مؤسسات الدولة»، حيث لا توجد دولة لبنانية دخل الفساد، فهو موجودٌ في هيكلية الدولة ونحاول أن نحاربه. لا تستطيع أن تحصل على ورقة أو أيّ موضوع إلا من خلال الرشوة والسمسرة.

كحقّ مواطن مسلوب ومهدور ومرتبط بوسيط مع الدولة. هذا الوسيط هو زعيم طائفي، أيّ كلّ نائب عن طائفة أو زعيم هو الوسيط بينك وبين الدولة، و«أنت» مرتبط به للحصول على الخدمات التوظيفية أو التعليمية أو الصحيّة أو الوصول إلى أي مركز. «أنت» خارج إطار المواطنة، بل «أنت» فرد ضمن إطار مذهبي مرتبط بزعيم يقرّر عنك ولك مع الدولة. فحقوقك لا تمتلك حرية اختيارها أو حرية التفكير أو القبول والرفض. أي أنت لست لبنانياً بعد بكامل حقوقك ومواطنيتك وإنسانيتك ومؤهلاتك، «أنت» ناقصٌ وعاجز ومرتهن وتابع .

أنت مرتبط في الخيارات السياسية الداخلية والخارجية. أنت لا تقرّر إنّما متلقّ. أنت تدفع ثمن الخصومات السياسية التي في أكثر الأحيان تتجه نحو العنف في الشارع من خلفيّات مذهبية أو مناطقية أو عصبية، وخيارات أخرى خارجية أيّ كلّ طائفة أو مذهب كتلة مرتبط بكتلة أو دولة خارجية لها سياساتها وخياراتها وثقافتها تسيّرك وتفرض عليك هذه المنهجية والسياسة.

إنّك يا عزيزي مرتبط بزعامة أو مرجع مذهبي، هو بحدّ ذاته مرتبط في سياسات خارجية لارتباط الطائفة في هذه الدولة الخارجية التي تفرض على دولتك سياساتها عبر هذا الزعيم الذي هو يعبّر عنك في الدولة.

السياسات الاقتصادية تجعلك مرتهناً للبنوك حتى تموت وبعد موتك تورّث أولادك الديون أو يدفع التأمين عنك ما اقتطعه مسبقاً منك.

وعودٌ وكذب وصفقات وفساد وتوريث سياسي وطبقية ونهب للثروات وللحقوق وسياسة تفقير وتجهيل. في المقابل يملك السياسيون ثروات خيالية وقصوراً ورفاهية على حساب المواطن العادي الفقير المدجّن المهمّش.

لائحة لا تنتهي من التعليم إلى البطالة إلى هجرة القوة الشبابية إلى الفساد في كلّ المجالات والمحاصصات.

كلّ ذلك و«أنت» نفسك كمواطن تعرف وليس بجديد عليك، فكلّنا نعيش ونصادف في حياتنا اليومية كلّ هذه العوائق والتحدّيات والأزمات. ما يحيّر وبحاجة إلى دراسة معمّقة هو كيف نعيش الانفصام وكيف لا نأخذ قراراً وخياراً وكيف نشتم الزعيم والسياسي ونصوّت له… لا بل أحياناً نموت لأجله وندفع ثمن الدم والقتل والفوضى والتعصّب.

كيف لنا نحن المواطنين أنفسهم أن نشتم ونعي وندرك ونحاضر ونتفلسف وندور في النقّ من صباحنا حتى مسائنا، وفي الوقت نفسه نتعّصب ونصوّت. نتقوقع ونصوّت. نشتم ونصوّت. نموت ونصوّت. هذه أزمة حقيقية بدايتها التغيير والمحاسبة مع التحرّر والوعي والرفض والتمرّد.

نحن بحاجة إلى وقفة جريئة وقفة دون خوف وقلق دون حسابات ضيّقة وفردية وأنانية ومذهبية وعصبية، بحاجة إلى وقفة إنسان ومواطن يدافع ويصارع من أجل حقّه في الحياة من أجل حياة كريمة ومحترمة ومن أجل أولاده، في حياة طبيعية وبحقوق أساسية.

هذه الفرصة التي لا تأتي دائماً وإلا ليس لنا الحق أن نقول أو أن نشتم أو أن نصرخ أو أن نرفض أو أن نتفلسف وأن ننظر إلى حال واقعنا وظروف معيشتنا وأزمات تخلّفنا.

مَن يتخذ قراراً ويقف وقفة واحدة ثابتة ويعارض ويحاسب، ويقول: «لم يعد مقبولاً في زمن التكنولوجيا والتطوّر التواصلي والمعرفي والانفتاح على الكوكب أن نبقى في حالة من التجهيل والتفقير والاستهلاك والعماء والموت الصامت كمقبرة متحرّكة تعيش على المسكّنات العصبية وحليب القبيلة والعجز والتدجين والتعصّب القاتل، لم يعُد مقبولاً أن نعيش في هذه البقعة من العالم في حالة من العتمة والعطش والعوز والقلق والجهل والتخلّف. لم يعد مقبولاً أن ننجرّ كالقطعان ونستخدَم كالسلع والأرقام التفاضلية ونوظَّف في صراعات وحروب واقتتال، لم يعُد مقبولاً كلّ وسائل الترهيب والتخويف وشدّ العصب ولغة السمسرة والمال، والانقسام الحادّ والإقصاء».

هذا المنطق في عصر معرفي يأخذ مداه لم يعُد مقبولاً هذا التسطيح والاستخفاف بعقول الناس وبحقوقهم وحريتهم ولقمة عيشهم وكرامتهم. هذه الطبقة السياسية لم تحسب لنا أي حساب فلا ورقة عمل واحدة من أيّ طرف ولا حتى برنامج انتخابي أو رؤية إصلاحية تحثّنا أن نسقط ورقة تردّ اعتبارنا المعنوي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى