ربيع جابر يبعثر قلاع السلطنة ويفقأ عين الحرب في «دروز بلغراد»
محمد رستم
مرويّة إشكالية أثارت الكثير من الصخب في الفضاء الثقافي وحرّكت سطح الماء الراكد في ذهنيّة المتلقي، ربيع جابر الروائي ترك بيدر أمانيه في مهبّ العصف بعدما حصد قمح الحكاية «جائزة البوكر».
مرويّة «دروز بلغراد» كانت الزاد القرائي للندوة التي افتتحها «نادي القراءة» التابع لوزارة الثقافة الأولى في حمص بإدارة الأديبة رولا حسن، والذي تجلّى بحضور ثقافيّ نخبويّ غصّت به الصالة. حيث دارت نقاشات أغنت الحالة الثقافيّة للحضور وتأرجحت الآراء بين مسخّف للرواية ومبخّر لها، لذا وجدت من باب الإنصاف للراوي أن أضع النقاط على الحروف، من خلال العودة إليها لفك أكوادها المرمزة، طبعاً ـ من وجهة نظري ـ مع احترامي الشديد لكل الآراء التي طُرحت.
ومن العنونة أبدأ، «دروز بلغراد»، والعنونة كما نعلم هي العتبة الأولى للعمل الأدبي. ترخي بظلالها على مفاصل العمل بالكامل وتشير إلى المحور الدلالي الأهم في المرويّة، هذه العنونة التي تأتي بلبوس التركيب الإضافي على نيّة إيداع المبتدأ في عالم الغياب.
ولعلّ رائحة مغالطة تفوح من هذه الإضافة، إذ تشير إلى الهوية وتؤكّد الانتساب إلى المكان بلغراد، أولئك الدروز كانوا سجناء منفيّين والسجن كما نعلم يغدق الشقاء والألم على نزلائه، لكن محال عليه أن يمنحهم شرف الجنسيّة. وكنوع من المخاتلة وكي لا يقع الكاتب في مطب التوثيق، مع أنّ المنجز يرتدي عباءة الرواية التاريخيّة السيرية، وكي لا يتوه في زواريب المساءلة، فإنّه يرفع كما الكثير من الأدباء كليشي الأمان، فيقول: «هذه الرواية من نسج الخيال وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها هو محضّ مصادفة»، ولعلّ الحدث الصادم في الرواية هو اقتياد حنّا يعقوب، المسيحيّ، الذي وجد في المكان الخطأ والزمان الخطأ مع المساجين الدروز الذين قررت السلطنة سجنهم في مناف بعيدة لوجود تهم بحقهم تتعلّق بمشاركتهم في مجازر 1860.
ويبدو أن أحد أبناء عبد الغفار الخمسة الذين سيرحّلون مع المساجين قد دفعت للوالي العثماني الرشوة الكفيلة بإطلاق سراحه وكان الحظّ العاثر لبائع البيض الفقير حنّا يعقوب، أنّ يتواجد في المكان حيث سيرحّل المساجين، فزجّ به بدلاً عنه وفرض عليه أن يكون سلمان غفار عز الدين فيردّ كلّما تلي الإسم بكلمة حاضر.
وتركّز المرويّة على المعاملة الظالمة والمجحفة وغير الإنسانيّة التي يعامل بها رجالات السلطنة المحابيس، معاملة تدفع بالسجين لأن يتمنّى الموت كل لحظة ليتخلّص من مرارة العذاب والألم.
كما يلمّح الكاتب إلى دور السلطنة في إذكاء نار الصراعات الدينية في البلقان حيث حروبها الدائمة مع مملكة الصرب «ماذا يفعل راسم باشا الآن، يقصف كنائس الصرب ويدكّ بيوتهم»، فيأتي الرد بالمقابل: «بسيفه المستقيم كسر أميرنا جورج الشجاع سيوفهم الهلالية»… والهدف الإشاري واضح من العنونة وهو إدانة الحرب الطائفية 1860، هذه الحرب التي كانت نواتها ثورة الفلاّحين الفقراء ضدّ الإقطاع عام 1858 بقيادة طانيوس شاهين الذي نادى بإلغاء امتيازات الطبقة الإقطاعية العابرة للطوائف، ولكنّ الوالي العثماني خورشيد باشا وبالتعاون مع الإقطاع من كل الطوائف حوّلوا الانتفاضة إلى صراع طائفي بين الدروز والمسيحيين… كما ركّزت الإدانة على فساد نظام الحكم للسلطنة ومعاملة الرعيّة بالاحتقار والاضطّهاد وبينت الرواية في ظل السلطنة التي تخندقت وراء التفرقة أنّ الإنسان في نظرها مجرّد كتلة مغسولة من الإنسانية منفيّة عن المشاعر، لا وزن ولا قيمة لها ويمكن أن تستبدل بأيّة كتلة أخرى كما حدث مع سلمان غفار عز الدين الدرزي المتّهم بحسب لوائح السلطنة والذي استبدل بحنّا يعقوب المسيحي البريء كما تراه السلطنة.
وهذا المحور الدلالي الأهم في المرويّة ونلحظ كيف أجاد الكاتب في رسم الشخصيات وحبك الأحداث وتركّز الرواية على معاناة البطل التراجيدي حنّا. حيث البطولة من النوع السلبي الانسحابي، وقد عمد الأديب إلى طريقة فلاش باك ، فاتخذ الراوي هيئة الكاميرا أو المراسل الصحافي في طريقة السرد ونقل الحدث ولعلّ الكاتب يغرق في الجانب الوصفي مما يبدو حملاً ثقيلاً على جسد الرواية كما في الصفحة 56 وجاءت الجمل السرديّة قصيرة النفس متلاهثة، متلاحقة كأنّها في سباق مع الزمن، متقطّعة تفتقر إلى الانسيابية، وبدا السرد أحياناً كأنّه زيادة لا لزوم لها ولصق مربك على سياق المرويّة. وهناك بعض العبارات التي تشي بتألّق الكاتب عن المساجين عندما أخذوا لأعمال السخرة، يقول: «خافوا من غياب الحيطان… ومن المدى الفسيح ونقاء الهواء». ويحسب للكاتب قوله: «المحابيس فرحوا لأن الحيوانات جلبت الدفء إلى المكان ولأن مراقبتها وسماع أصواتها وسّع الحبس، صارت سلواهم، وأنوّه إلى أنّ تقسيم الرواية إلى مقاطع لم يقدّم شيئاً».
وأمّا القفلة النهائية للمرويّة فقد أتى مشهدها مختصراً وسريعاً، لا يتناسب ومعاناة حنّا يعقوب.
كاتب سوري