رواية «رائحة الموت» للمغربية ليلى مهيدرة… الإيقاع الزمنيّ والماضي الصفر رشيد أمديون
يعرف الإيقاع الزمني في رواية «رائحة الموت» للمغربية ليلى مهيدرة وتيرة تأخذ أحياناً شكلاً سريعاً يساهم في بناء الأحداث وتسارع السرد وتقدمه نحو الأمام، وأحياناً أخرى شكلاً بطيئاً يتوقّف معه السرد، وهذا راجع إلى أنه تم توظيف تقنيتين حكائيتين، تتمثل الأولى في تسريع السرد وتشمل تقنية الخلاصة والحذف، والثانية في إبطائه، وتشمل تقنيتي المشهد والوقفة.
تسريع السرد
تقنية يتم من خلالها إغفال وترك فترات من زمن الأحداث، بها يتم ذكر فترات زمنية طويلة في مساحة نصية ضيقة، حسب أهميتها ومدى خدمتها للحدث العام والسياق السردي عامة، وتعتمد هذه التقنية على حركتي الحذف والخلاصة:
أ ـ الحذف: أو الإسقاط يلعب «دوراً حاسماً في اقتصاد السرد وتسريع وتيرته، فهو من حيث التعريف تقنية زمنية تقتضي إسقاط فترة، طويلة أو قصيرة، من زمن القصة وعدم التطرق لما جرى فيها من وقائع وأحداث». مثل ما جاء في الرواية:
ـ «مستعد لطمس ملامح عاش طوال السنوات الثلاثين الماضية ليرسمها على حيطان الأزمنة…».
ـ «غفوت ولا أدري كم استغرق الأمر حتى صحوت».
ـ «فقد عاش سنوات عمره يراقبها من على سطح سقيفته».
وقد وظّفت هذه التقنية بأنواعها الثلاثة داخل الرواية: الحذف الصريح أو المعلن، والحذف الضمنيّ، وقد ذكرت مثالاً عنهما، وأيضاً الحذف الافتراضي وهو يتمثل في تلك الفراغات المتروكة قبل بعض فصول الرواية، كذا الفراغ الذي يأتي مباشرة بعد انتهاء الفصل مع الصفحة التي لم تمتلئ. هذه الفراغات ربما تؤدّي وظيفة تجعل للمتلقي/القارئ مجالاً للتفكير في الأحداث السابقة، فهي تشكّل بياضاً يفصل بين المسودّات التي تمثّل كما قلنا سابقاً رواية الشخصية المحورية، والسرد الرئيس.
ب ـ الخلاصة: أو التلخيص وهي سرد أحداث وقعت في عدة أيام أو شهور أو سنوات، سردها في صفحات قليلة، ومن دون تفاصيل، فهي «تقنية زمنية عندما تكون وحدة من زمن القصة تقابل وحدة أصغر من زمن الكتابة تلخص لنا فيها الرواية مرحلة طويلة من الحياة المعروضة». وهذا نلاحظه في بعض أحداث رواية «رائحة الموت» التي تحكي خلاصات عن تاريخ جد العربي أو عن معاناة «أمه زينب»، أو خلاصة موجزة عن والده أو أصله البرتغالي، أو عن صديقه، أو عن أستاذه في مادة التاريخ… فغالبية هذه الاسترجاعات جاءت على شكل خلاصات منها ما كان متفرّقاً بين فصول الرواية. فالكاتبة تعود إلى ماضي الشخصيات لتمد القارئ بالمعرفة الكاملة لبناء الحدث، وإن كنا سنرى أن بين هذه التقنية الخلاصة و الاسترجاع صلة ما، إلا أننا سنلاحظ أن التباين الذي بينهما يتجلى في أن الخلاصة تستدرج الماضي وتتخذ «أحداثه موضوعاً مهيئاً للعرض الموجز والسرد السريع».
2 ـ تبطيء السرد
تبطيء السرد أو تعطيله: تقنية مضادة للتقنية السابقة التي يُعتمد فيها على التسريع، فهذه تقوم بإيقاف اتساع السرد، وحركته إلى الأمام، ويكون ذلك عن طريق تقنيتين: المشهد أو الوقفة.
أ ـ المشهد: «ويقوم المشهد أساساً على الحوار المعبّر عنه لغوياً». يتوقّف السرد ويتنازل السارد عن مهمته الكلامية إلى الشخصيات، تعبر بلسانها عن طريق الحوار أو عن طريق الحديث النفسي. والحوار من شأنه أن يوضح جوانب كثيرة من تفكير الشخصيات ومواقفها، ومستواها المعرفي الاجتماعي والثقافي وغيرها… وقد وظفت الكاتبة ليلى مهيدرة في روايتها مشاهد حوارية، منها على سبيل الذكر حوار العربي مع «أمه زينب»، وهو طبعاً، حوار قام العربي بتذكره فيسترجع معه مآسيها ومآسيه، أو يناجي روحها في بعض المشاهد. هناك كذلك حوار الأم التي سقط ابنها من سطح البيت وإن كان الحوار في المشهد ضئيلاً مقارنة مع الوصف الغالب… هناك مشاهد حوارية أخرى، لكن أكبرها والذي احتل مساحة من صفحات الرواية، هو ما كان بين الشخصية المتخيلة في مسودّات العربي والشخصية المنشطرة إذ إنه أخذ فصلاً كاملاً فهو حوار أدّى إلى تباين الفارق بين الشخصية الأولى والثانية، وإن كان في الأصل أن الشخصية تحاور نفسها، لكن في النصّ بدت شخصيتان مختلفتان في الرؤية.
ب ـ الوقفة: وهي ما يعرف بالوقفة الوصفية، فتتعطل حركة الزمن في الرواية، أو ما يسمى بالسيرورة الزمنية، حتى ينتهي الوصف من مهمته التي هي وظيفة أساسية أيضاً بحيث يضيء السارد ما سيأتي من أحداث عبر تقنية التصوير التي يعتمدها أسلوبه اللغوي. و«تشترك الوقفة الوصفية مع المشهد في الاشتغال على حساب الزمن الذي تستغرقه الأحداث». وقد تنوّعت المشاهد الوصفية في رواية «رائحة الموت»، نذكر منها مثلاً:
ـ «كلّ شيء محدّد هنا بالغرفة، حيطانها الداكنة والسماء المقننة بحدود النافذة حتى الماء محدد داخل قدر. والأوكسجين أيضاً». يصف الطفل الفضاء الذي اختطف إليه.
ـ «الشال المكوم فوق الرأس بشكل يكاد يبتلع وشماً أخضر قاتماً خُطّ على جبينها ليتم امتداده على ذقنها. أسنان بنية اللون تطل من بينها سن مذهبة وإن اعتلاه بعض السواد في جوانبه كأنه بعض صدأ، عينان جاحظتان وأنف مقعر». يصف الطفل أمّنا الغولة كما أطلق على تلك المرأة التي اختطفته.
ـ «كانت صاحبة الحائك ذات حوافر، الماعز واقفة تنظر إليه، كانت ملامحها واضحة رغم الظلام، جمال آسر، عينان حجليتان يحيطهما سواد الكحل ليجعلهما أكثر إثارة، لم تنبس بكلمة ولا حتى بابتسامة».
تستعين الروائية بالوصف في مقاطع كثيرة حتى تقرب الصورة إلى ذهن القارئ كمثل وصفها لحواري المدينة القديمة لارتباطها بذاكرة الشخصية، وتلك الحوانيت المتراصّة التي تبيع بضائعها للسياح، لما لها من ارتباط رمزي بتاريخ المدينة وبثقافتها. وكذلك تصف رقصة «كناوة» ذات الأصول الأفريقية والأبعاد الرمزية والدلالية ترتبط بتاريخ العبيد، وهي رقصة معروفة لها طقوس خاصة. مثل هذه الأشياء تعتمد الروائية تقنية الوقفة الوصفية كي تضيئها للقارئ.
الماضي: الزمن الميت
لم تُخضع الكاتبة الزمن الروائي للتتابع المنطقي، فقد وظّفت أيضاً تقنية الاسترجاع والاستباق، فتلاعبت بزمن الحكاية في مسار السرد الحاضر، ثم ترجع بالزمن إلى الماضي، وبين العودة إلى حاضر الشخصية والرجوع إلى ماضيها نرى أن الشخصية ضائعة بين زمنين أو منشطرة بينهما، لأنهما يشكلان تمازجاً برز بشكل تصادمي، أدّى بها إلى الإقدام على الانتحار، أي اختيار الموت على الحياة، تعبيراً منها عن رفضها الحاضر، وتعبيراً منها عن عجزها أمام المحيط والمتغيّرات الطارئة فيه. ولأن الأمل في المستقبل صار مستحيلاً في ذهن الشخصية، صارت كل الأحداث تنتسب إلى الماضي، لأنها بنيت عليه وأسّست على نتائجه، وحتى حين يعود بنا السرد إلى الحاضر فليرصد انشغال «العربي» بروايته، وأيضاً لما أراد أن يكتبها كتب عن شخصية تحكي عن ماضيها أيضاً، عن طفولتها، وهذا يدل كذلك على أن الطفولة هي المرحلة الزمنية الوحيدة التي لا يمكن للإنسان أن ينفصل عنها مهما بلغ من العمر، فهي تسكنه بنعيمها أو بجحيمها، لأنها الجزء الذي أُسّست عليه شخصيته، ودفعته إلى الحاضر ليرى النتائج بعينه، رفضه الحاضر يعيده دائماً إلى ذلك الجزء، فإن كان عاش طفولة جميلة فهي ستكون أحسن ذكرياته واسترجاعها فيه نوع من الحنين، وإن كانت غير ذلك فهي من الصعب نسيانها لأنها تشكّل مرحلة الجحيم بالنسبة إليه. طفولة العربي كانت مغتصبة أثرت فيها بيئته الأسرية وظروفه التي جعلت منه حفيد الظالم ووريث فترة التجبر، ومجتمعه أثر فيها كذلك بالنظر إليه بعين المسؤول عن إخفاقات الماضي، لهذا فشخصيته لم تستطع التخلص من عبء الماضي، ولا حاول أن يبادر إلى تغيير ذاته لينطلق نحو المستقبل، وحتى الانتحار لم يعش تجربته إلا من خلال تجربة شخصية روايته المفترضة، حالة من رفض المواجهة، رفض الواقع الحاضر، رفض الاعتراف بالموت المحيط به، فدخل ما يشبه بانعدام الزمن الطبيعي بالنسبة إليه، انعداماً تاماً، لأنه لم يعد يعرف إلا الماضي، ولا يشعر إلا به، لهذا فهو لم يدرك أنه انتحر في سن الثلاثين، وخلال عشرين سنة عاشها فاقداً الإحساس بالزمن لأنه داخل قوقعة الماضي، الذي لا يسمع فيها إلا صوت الزمن الميت، وهذا الفعل هو في حد ذاته ترجمة للموت، من حيث صفة الجمود والسكون، وعدم الشعور بحركة الزمن الطبيعي الذي يسيل ويستمر، ويظل الزمن النفسي بطيئاً أو متوقفاً، ينتظر يقظة أو هزّة عنيفة…
… في المقابل فقد يكون قضى زمناً طويلاً بالمقياس الزمن الخارجي، إنه كالحلم مثلاً، فالحالم لا يجري في عالمه الزمن فهو حين يستيقظ يحسب نفسه كان يحلم الليل كله، مع أن زمن الاستغراق في الحلم بالمقياس الزمن الفيزيائي، لا يعدو أن يكون دقائق معدودات. ما كان يعيشه «العربي بلقايد» هو زمن سيكولوجي نفسي جعله لا ينتبه إلى الزمن الخارجي الذي يرصد في الرواية وضعه ما بعد الانتحار، معتقداً أنه شخص آخر، إلى أن اصطدم من حيث لم يتوقع بالتصريح بالدفن، لهذا فالرواية تشير إلى أن الشخصية المنتحرة كانت في الثلاثين، بينما «العربي بلقايد» كان في الخمسين، أي أنه قضى عشرين سنة ميت الإحساس والشعور، غافلاً عن الزمن الخارجي وعن المحيط، غفلته كما قلنا رهينة ماضيه المهيمن على كل شيء فيه، كأن زمنه توقف في الماضي الصفر.
«رائحة الموت» رواية صدرت حديثاً عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة» ـ لبنان، في 159 صفحة من القطع الوسط.
كاتب مغربيّ