بين الإبداع الحقيقي وتهدّل المواهب وانعدامها..
الشاعرة والروائية نسرين بلوط
كثيراً ما ينحسرُ الفكرُ عن تساؤلاتٍ لحالات وهمية، لا بل مَرَضية، نراها كلّ يوم، كالداء المتأصل في جنون الريح العابثة، تتجمهر في نواصي الشوارع وزوايا الأمكنة.. وتعتلي المنابر وتسرد الخطابات، اعتدناها من كثرة ما رأيناها.. هي حالات الجهل المتفشّي من الذين يدّعون المعرفة ويسبرون غور الشعر من غير مراعاة لأحكام البناء ورهافة الإحساس واعتناق اللازورد المتهدّل الذي يلفح القراء بروح النشوة والدهشة، وذلك لافتقارهم الموهبة، فيكتبون كل ما يصفع العينين بالجمل المركبة، والخيال الناقص، والسرقة الأدبية الظاهرة للعيان.. ويذهب بهم جنونهم المَرَضي وحبهم للوصول، لأن يتشامخوا للعلاء حدّ أن يجرّدوا قصائد كتبت على أيدي مبدعين بعضاً من كلماتها، وينزعوا عنها ما رُصّعتْ به من جواهر الأحاسيس، ليدسّوها بين كلماتهم الهابطة وحروفهم المتهدّلة من غير معنى، فقط لأنّ طموحاتهم استهوتهم فقرّروا فجأة أن يصبحوا شعراء أو أصحاب كتبٍ ودواوين.
ورغم كون معظم هؤلاء الدخلاء على عالم الأدب والشعر، من الذين يحملون شهادات جامعية أو يتباهون بدخول معترك العلم، لاعتقادهم أنّ مقاعد الدراسة تشفع لهم افتقارهم الإبداع، إلا أنّ انعدام الموهبة في كتاباتهم لا يُخفى عن عيون النقاد ولا مكان لهم إلا الحضيض.
كم من انسانٍ حليمٍ مبدع قد نجح وارتقى بفكره، وكم من صاحب دراسات عليا في آداب اللغة العربية قد فشل في إدراك حلمه بسبب افتقاره الصبر والمعرفة الثاقبة في الأدب ومجازاته واختزالاته، والأهمّ بسبب أنه لا يمتلك الموهبة. وقد قال في هذا الشاعر آرثر غترمان: «الذي يتعلم بالبحث مهارته سبعة أضعاف مَن يتعلّم بالأوامر».
نأخذ مثلاً علم الفلك الشائك بدهاليزه، ونذكر فيه الشاعر الفلكي المشهور اليوناني «أراتوس» الذي كان جاهلاً في هذا النوع من العلوم، ولكنه كتب أجمل قصيدتين عن الفلك السداسية التفاعيل، والتي روّعت قلوب الملايين في عصره، فشفعت موهبته لجهله التقني وجلجل صدى روحها إلى الأعماق حتى لامست الصميم.
أما في عالم الرومانسية، فنُعطي مثلاً لوركا، الشاعر الإسباني الذي كاد أن يُنصبَ ملكاً من قبل جمهوره الذي عشق قصائده المتلألئة تماماً كياقوت شعره المنسدل برداً على قلب قارئه، فلم يكمل علمه في الجامعة وآثر أن يتأمّل بدل أن يتعلّم، فكان دائم الشرود في الفلسفة الكونية، والطبيعة الميثيولوجية، يزدرد هموم وطنه قصائد حنين ويموت شهيداً من أجل حلمه.
عباس محمود العقاد حاز على الشهادة الابتدائية فقط، وبعد أن بزغ نجم إبداعه وهزّ العالم العربي بحداثة فكره واستبطانه المجاز في تسابيح شعرية متسلسلة، رفض الدكتوراه الفخرية التي مُنحت له في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لاعتقاده أنّ موهبته أهمّّ من أيّ شهادة ورقية ينالها.
غابريل غارسيا ماركيز، الذي حصل على جائزة نوبل للآداب، وصاحب رواية «مئة عام من العزلة»، لم يحصل على شهادة جامعية، ولكنه سبر عين الأدب ونصب قلمه حارساً له.
هذا لا يعني أن لا نبدّد سجف الظلام ونسعى للعلم، ولو كان في بلاد الصين، ولكنا نتناول الفرق بين الإبداع الحقيقي والادّعاء المزيف الجلي للإبداع من الذين يتباهون بعلمهم ويعتقدون أنه قادرٌ على خلق الموهبة لهم رغماً عن أنف الضباب الحاجب لها. فهؤلاء الأدباء الذين ذكرنا بعضاً منهم لم يتح لهم وضعهم أن يكملوا علمهم فاعتمدوا على موهبتهم وصقلوها وحاربوا من أجلها الجهل وفازوا في النهاية، لأنّ الجذوة المشتعلة وهي الإبداع تشعّ ساطعة في حبرهم وتنبض كدقات القلب هنيهة هنيهة.
فبالإضافة إلى افتقار هؤلاء الفئة الجاهلة «موهبةً»، نرى الغيرة تدبّ بأوصالها في أوساطهم، فيزدحم المنبر الخطابي بالكثيرين من أمثالهم، منهم الذي يكتب دون معنى، أو ينشد الوزن من غير إحساس، متباهياً بأنّه كتب قصائد موزونة، لا معنى لها إلا أنّ «المفاعيل» قد ضبطت ألحانها فيها، مغرّداً كطائر مبحوح الحنجرة، لأنّ المعنى مفقود، فيصدح صوته كالموسيقى التي لا روح فيها وكالعبث من غير طائل! وهنا يشبه التلميذ الفاشل الذي يحتمي بالغش في امتحانه فيجتازه وينتشي سعادة، ولكنه يتلقّى الصفعة القاضية عندما ينتقل إلى مرحلة من العلم أكثر صعوبة وأشدّ تعقيداً فيفتضح أمره ويهبط مع الهابطين من الجنة إلى قاع الأرض.
ومعظم هؤلاء لا يقرأون! ويتبجّحون علناً بأنّهم يكتبون من غير أن يطالعوا أيّ كتاب! فموهبتهم «في نظرهم» تفور كالزبد تتطاير رغوته من الموج! ما أعجبهم! مَن يأذن للفكر بأن يبوح بمكنونات سره إلا الثقافة، والثقافة تكون بالمطالعة أولاً فقد سأل أحدهم أرسطو: «كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب أسأله كم كتاب يقرأ وماذا يقرأ»؟ وبالتحريض غير المباشر على التزوّد بالتفهّم والتفاهم، لا التجهّم والتهجّم على الآخرين لنبني صرحاً متيناً عالياً من العلم والأدب، إذ يخطر لنا قول الكاتب ستيفن كوفي: «معظم الناس لا يستمعون بهدف الفهم، ولكن يستمعون بهدف الردّ». هم يمقتون المبدع الحقيقي، لأنّه يجلو أمرهم ويظهر سرّهم الراقد في حمم الجهل الإبداعي.
هناك كثيرٌ من الناس الفقراء جداً حتى بعلومهم الجامعية، وأناس أغنياء بمواهبهم، بحيث يمتلكون الكنز الأعظم وهو المعرفة، ولديهم آذان صاغية تتقبّل النقد وتمنح القدرة على الاستيعاب لغيرها.
مع كلّ ما نراه اليوم من انتشار العلم، يزداد الجهل الإبداعي لانتقاص الموهبة ويتفشى بخطى واسعة أليمة تدعو للتساؤل والترحم على أيام المواهب الحقيقية.
الكتاب حصن حصين، ولكن تفسير مكنونات المعرفة والثقافة وأهدافها هو الغاية المنشودة، والتي تمنع الزلزال الذي يوشك أن يرتجّ في أعماق الروح البشرية التي تعيش في مجتمع تسوده الفوضى العامرة.
بين الإبداع وادّعائه خيط واهٍ، لا يكاد يُرى بالعين المجرّدة، يرسم الحدود، وحتى لا نسقط في شرك الاحتراق به نرى أن نبدّد السحب الجاثمة فوق صدورنا، وندرك أنّ الموهبة هي المدرسة الأولى التي يجب أن نثبت فيها قدرتنا على التحمّل والإدراك والتفهّم، قبل أن نتباهى بما نملكه من شهادات وإنجازات عملية أو فكرية.
أيّها الدخيل المتدثر الرأس بعمامة الموهبة الزائفة، حتى تحرّر نفسك من أغلال الادّعاء بأنك تسطع متشامخاً نجماً في سماء الأدب، وتثير أصابع التشويق بسرقة أدبية أو بادّعاءات وهمية، كن نفسك دائماً.. واعترف بأنّك متعلم ولكنك غير عالمٍ بالمواهب.. فالتجديد أجمل من التقليد، والتحرير أرقى من التحرّر، وليس أجمل من الموهبة سوى الإقرار بأنّها هي الباقية في مصفاة التاريخ.. الذي لا يبقي إلا على مَن يكون أهلاً للبقاء، ولا يلتصق بأديمه إلا من حفر بأظافره ليصقل موهبته إن امتلكها، ويقهر بقلمه زوابع النقد واحتقان الغيرة بين أترابه.
وللقارئ أقول: صباحٌ يغرقُ في سماءٍ بلورية تقرّ أنّ التألق للنور وحده… ولن يخلد فيها الا اللازورد الحقيقي… مهما تطايرت شرارات وفقاعات من سواكن العدم.. التي تعود حتماً للحضيض.