خطاب بوتين وتداعياته الجيوسياسية
زياد حافظ
خطاب بوتين حول حال الأمة في روسيا كان زلزالاً جيوسياسياً نادراً ما شهدناه أو ما شابهه خلال العقود التي مضت بعد الحرب العالمية الثانية. لم يعِ الإعلام الغربي المرئي والمكتوب بشكل عام والأميركي بشكل خاص أهمية ذلك الخطاب ناهيك عن الغياب شبه المطلق في الإعلام العربي له، إلاّ في بعض الحالات الفريدة كصحيفة «البناء». فالنخب الحاكمة في الغرب وفي الدول العربية التي تدور في الفلك الأميركي الصهيوني لم تفهم، أو لا تريد أن تفهم، أبعاد كلام الرئيس الروسي. فالتعليقات الرسمية الأميركية والمقالات المرافقة لها أبرزت مرّة أخرى حال الإنكار الذي يسودها والذي يتحكّم برؤيتها السياسية للتحوّلات التي حصلت وما زالت تحصل في العالم. معظم التعليقات والتحليلات قلّلت من قيمة الخطاب ووضعته في خانة الاعتبارات الداخلية الروسية، وخاصة تلك العائدة للانتخابات الرئاسية في شهر آذار/مارس 2018. لكن في رأينا، الخطاب له تداعيات جيوسياسية ضخمة تحدّد معالم النظام العالمي الجديد الذي سيُبنى على احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها والتخلّي عن الحروب، وهذا ما لا تقبله الولايات المتحدة ضاربة عرض الحائط كافة الاعتبارات المتعلّقة بالقانون الدولي والشرعية الدولية على قاعدة أن قوّتها هي مصدر الحق فقط لا غير. فمن الواضح أن نهجَيْن سياسيين يتصارعان، والغلبة لن تكون لصالح النهج الأميركي.
يقول الباحث الروسي اندري مرتيانوف، وهو ضابط سابق في البحرية الروسية ومن أهم العقول الجيوسياسية والعسكرية، أن خطاب الرئيس الروسي يعكس ما قامت به روسيا في حربها في جورجيا عام 2008 وهو «الإكراه على السلام» أي فرض السلام بالقوّة. وفعلاً استطاعت روسيا بقوّة السلاح هزم الجيش الجيورجي المجهّز والمدرّب أميركياً في خمسة أيام فقط! فخطاب الرئيس الروسي هدفه إفهام الولايات المتحدة ضرورة اتخاذ سبيل آخر غير سبيل المواجهة خاصة إذا كانت عبثية، أي إكراهها على السلام.
ما يعزّز هذا التقييم هو ما قام به عدد من أعضاء من الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ الأميركي بتوجيه رسالة إلى وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون تحثّه على حوار استراتيجي مع روسيا. الشيوخ وهم برني ساندرز، ديان فينشتين، جيف مركلي وادوارد ماركي أكّدوا ضرورة الأخذ بجدّية ما جاء به الرئيس بوتين. وأهمية الرسالة تكمن في مصدرها بكونها إعلاماً من الحزب الديمقراطي الذي قاد في عصر أوباما نهج العداء لروسيا. كما أن الباحث الروسي مرتيانوف أبرز معالم الفجوة الصاروخية بين الترسانة الروسية والترسانة الأميركية والتي لا يمكن ردمها في المستقبل المنظور، رغم كلّ الأموال التي يتمّ إنفاقها من قبل البنتاغون. فالسباق التسليحي انتهى قبل أن يبدأ وبفوز روسي واضح.
من جهة أخرى، أقرّ في يومَ 7 آذار/مارس من الشهر الحالي، أحد المسؤولين في وزارة الدفاع جون روود، وهو في مرتبة أقل من وزير الدفاع، في إحدى جلسات الاستماع أمام لجنة القوّات المسلّحة في مجلس الشيوخ الأميركي أن وسائل الدفاع الصاروخي التابعة لواشنطن غير قادرة وغير مُصمّمة في الأساس على مواجهة القوّة الاستراتيجية الصاروخية لروسيا والصين، ما أذهل المستمعين من الشيوخ. لكن التغطية الإعلامية الأميركية لذلك الموقف غائبة أو مغيّبة ما يعزّز حال الإنكار الذي يصيب النخب الأميركية. ويمكننا أن نضيف فما هو حال «القبّة الحديدية» المزعومة لدى الكيان الصهيوني أو لدى حكومة الرياض؟ فهل تستطيع مواجهة المنظومة الروسية التي تمّ الإقرار بها في الكونغرس الأميركي؟
في هذا السياق يعتبر مرتيانوف أن معظم النخب السياسية الأميركية لم تخدم يوماً ما في القوّات المسلّحة وأن خبرتها في الشؤون العسكرية والحربية محدودة للغاية وتقتصر على حضور بضع حلقات حوارية حول التسليح الصاروخي وحتى النووي. فالجهل في الموضوع يسود عقول تلك النخب التي تقرّر السياسة الخارجية والدفاعية. وينسحب الأمر حتى على «الخبراء» الذين يطلّون على الشاشات التلفزيونية في مهمة تخدير الرأي العام فقط لا غير وتجهيله عن الوقائع.
لذلك يأتي خطاب بوتين كإنذار كبير يقول فيه: «لم تسمعوا إلينا في الماضي القريب، ولكن عليكم اليوم أن تسمعوا». لم يكن خطاب الرئيس الروسي ردّاً على الموقف الأميركي تجاه التسليح النووي وإمكانية المبادرة في استعمال السلاح النووي التكتيكي، حيث تستدعي المصلحة الأميركية. تفيد المعلومات أن الرئيس الروسي كان يريد إعلان موقفه في أواخر السنة الماضية، ولكنه عندما علم أن الإدارة الأميركية ستصدر في مطلع السنة الجديدة موقفاً جديداً حول التسليح النووي وخطّة للأمن القومي والدفاع تمّ تأجيل الخطاب ليأخذ مدى أكبر بعد الاعلان الأميركي وليفرّغه من أي مضمون جدّي يتماهى مع المستجدّات التكنولوجية التي تملكها روسيا. وبغض النظر عن التساؤل حول التوقيت يبقى أن مضمون خطاب الرئيس الروسي هو سيّد الموقف الدولي سواء من عرض الترسانة الجديدة أو في اعتبار أن أي اعتداء على حلفاء روسيا هو اعتداء عليها يستوجب الردّ بالقسوة المناسبة خاصة إذا ما كان الاعتداء نووياً.
بعد إلقاء خطابه وافق الرئيس الروسي على مقابلة مع الإعلامية الأميركية ميغن كيلي من محطّة «أن بي سي» ردّ فيها على سؤال حول عودة الحرب الباردة وسباق التسلّح. جاء في الردّ أن الموقف الروسي جذوره في الموقف الأميركي عندما انسحبت الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن من اتفاقية الصواريخ الباليستية المضادة المعروفة بـ»أ بي أم» ABM التي تمّ توقيعها في مطلع السبعينيات والتي شكّلت ركيزة الاتفاقيات حول نزع السلاح الاستراتيجي «سالط». اعتبرت إدارة بوش أن العالم أصبح يحكمه قطب واحد من دون منازع. فكان لا بد من إعادة النظر في التسليح الروسي كمّاً ونوعاً. وهذا ما قامت به روسيا منذ ذلك الحين.
في السياق نفسه علّق المرشّح السابق الجمهوري للرئاسة الإعلامي بات بيوكانن أن الولايات المتحدة هي التي اتخذت إجراءات معادية لروسيا عبر نشر صواريخ في كل من بولندا والمجر. فكان الردّ الروسي بتعزيز الوضع العسكري في محيط دول البلطيق. قامت الولايات المتحدة بتدبير الانقلاب على الحكومة الأوكرانية المنتخبة ولكن الموالية لموسكو فكان الردّ الروسي عبر ضمّ شبه جزيرة القرم. ويعدّد بيوكانن المحطّطات التي أوصلت الأمور إلى ما عليها اليوم في العلاقات المتدنّية بين الولايات المتحدة وروسيا. ليس من البسيط أن يصدر تعليق كهذا من شخصية محترمة تعتبر أن الولايات المتحدة هي التي بادرت إلى استفزاز روسيا. فكان الردّ الروسي عبر الرئيس بوتين صاعقاً متوّجاً لإنجازات على الأرض في إحباط المشاريع الأميركية في المشرق العربي، أي في المسرح السوري.
وتفيد التقارير التقنية العسكرية أن السلاح الروسي أصبح في مجالات كثيرة متفوّقاً على السلاح الأميركي. وهذا ربما كان هو الغرض من العرض المرئي للسلاح الصاروخي الروسي في خطاب الرئيس الروسي. يعتبر الرئيس الروسي، وهو لاعب شطرنج ماهر، أن فنّ الحرب هو ربحها دون القتال في الحد الأدنى أو عبر التهديد الذي لا تمكن مجابهته أسوة بنظرية المنظّر الحربي الصيني القديم سون تزه. وهناك مقولة معروفة في لعبة الشطرنج أن التهديد بأكل البيدق أهم من أكله فعلياً! كما أن نظرية المنظّر العسكري الألماني فون كلوسيفتز تقول إن هدف الحرب هو تحقيق الأهداف السياسية التي من أجهلها تُخاض. فإذا كان بإمكان تحقيقها دون حرب عبر إفهام الخصم عبثية الإقدام عليها تتحقق عندئذ الأهداف السياسية عبر التفاوض والدبلوماسية.
لكن ما هو السلاح الفعلي الذي تمّ الكشف عنه في خطاب الرئيس الروسي والذي يغيّر قواعد اللعبة الجيوسياسية؟ تفيد التقارير بهذا الشأن أن الروس استطاعوا تطوير سلاح صاروخي لا يمكن اكتشافه ويستطيع أن يتهرّب من جميع الرادارات المتطوّرة الموجودة حتى الآن. هذا الصاروخ الملقّب بالخنجر اسمه التقني 3 أم 22 زركون. وهو صاروخ أسرع بكثير من الصواريخ الأسرع من سرعة الصوت هيبرسونيك ، إي إضافة إلى السرعة الفائقة هناك عدم إمكانية اكتشافه لتفعيل وسائل الدفاع المضادة له. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن حاملات الطائرات والبوارج والمدمرّات كافة وأي سفينة فوق سطح البحر أصبحت غير ذات جدوى من الناحية الفعّالية والتكنولوجية العسكرية. فالمليارات التي أنفقت على بنائها أصبحت غير ذات جدوى، فذهبت بالتالي هدراً. وهذا الصاروخ تحمله الطائرة النفّاثة ميغ 31 وبالتالي ليست بحاحة إلى منصّة يمكن رصدها لتحييدها. فإذا كانت هذه الأساطيل أصبحت في خبر كان، فهذا يعني أن البحور القريبة من روسيا، وخاصة البحر الأسود وشرق البحر المتوسط وحتى الخليج العربي والبحر الأحمر أصبحت مقفلة على البحرية الأميركية أو أي بحرية معادية. المصطلح المستعمل باللغة الانكليزية هو «مغيّر للعبة» أو «جيم شانجر» والبعض الأكثر تفاؤلاً يقول «انتهت اللعبة» أو «جيم آوفر». الجيم باللهجة المصرية .
الخسارة الأميركية الافتراضية أو المحتملة للسيطرة على البحور وشرايين التواصل البحري تعني إلغاء الهيمنة الكونية العسكرية. فتصبح الأساطيل الأميركية فاعلة فقط ضد الدول الضعيفة والتي لا تملك وسائل مماثلة إلاّ إذا تحالفت وتفاهمت استراتيجياً مع روسيا لتصبح ضمن الاهتمام الاستراتيجي الروسي. من هنا نفهم معنى الإنذار الروسي حول استهداف أي من حلفاء روسيا. ومن النتائج الأولية لذلك التغيير القبول المفاجئ للولايات المتحدة لعقد قمة من الندّ إلى الندّ مع زعيم كوريا الشمالية بعد التهديدات بعزل وتدمير كوريا الشمالية!!!
السلاح الذي تمّ الكشف عنه في خطاب الرئيس الروسي ليس وحيداً. فهناك تقديرات أن منظومة الدفاع الجوّي ضد الصواريخ من منظومة أس 500 أصبحت قيد الانتاج وأكثر فعّالية من منظومة أس 400 التي يخشاها الحلف الأطلسي أي الولايات المتحدة. وإذا اعتبرنا أن منظومة اس 200 الأقلّ فعّالية من منظومات أس 300 وأس 400 الروسية، والتي تمّ تطويرها في سورية وبخبرات سورية استطاعت إسقاط طائرة الـ»أف 16» درّة السلاح الجوّي الصهيوني فنفهم مدى تداعيات التحوّلات في الموازين العسكرية الصرفة.
الرئيس بوتين يقول: تعالوا لنتفاهم على القضايا المتنازع فيها مع دول الغرب وبخاصة مع الولايات المتحدة. الكلام التهديدي لا يفيد ولا قيمة له إن لم يترجم ميدانياً. وهذا ما بدا صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلا في المدى المنظور أمام المنظومة الدفاعية التي طوّرتها الصناعات الروسية، وما سينتج عنها من ترويج مكثّف للتكنولوجيا الروسية التي تفوّقت على نظيرتها الأميركية. هذا يعني وجود تحوّل في مفاهيم في فن الحرب ما يستلزم إعادة النظر في كافة الاستراتيجيات المبنية على نماذج مفاهيم سقطت بالضربة القاضية مع التحوّل الذي تمّ الكشف عنه.
من التداعيات المباشرة لخطاب بوتين إشهار عورة الإخفاق الكبير لأجهزة الاستخبارات الأميركية التي فوجئت، كما فوجئ العالم بأكمله، بما حققته روسيا. فبات واضحاً أن الأجهزة الاستخبارية الأميركية التي تشكّل أحد أعمدة الدولة العميقة في الولايات المتحدة والعمود الفقري للدولة الأمنية المتحكّمة بالدولة العميقة باتت عاجزة وعديمة الكفاءة في كشف مخطّطات من تدّعي أنهم الخصوم الاستراتيجيون للولايات المتحدة. ويعلّق ضابط الاستخبارات السابق في الوكالة المركزية فيليب جيرالدي أن هذا الإخفاق ستكون له تداعيات كبيرة على الصعيد الداخلي الأميركي خاصة أن مهام الأجهزة الاستخبارية تغيّرت بعد 2001 للاهتمام بقضايا مختلفة عن مهامها الأساسية والتي من أجلها تشّكلت. ويختم بالتعبير عن شكوكه في إمكانية النخب الحاكمة من استخلاص الدروس مما حصل.
أما على الصعيد السياسي البحت، فإن خطاب بوتين الذي عرض فيه التقدّم في مختلف القطاعات الاقتصادية والنمو الاقتصادي رغم الإدعاءات من قبل إدارة اوباما وبعض الجهات في إدارة ترمب أن الاقتصاد الروسي في حالة يُرثى لها. فمن ضمنة ترسانة المقولات التي تسخر من قدرات روسيا التركيز على حالة تردّي الاقتصاد الروسي الذي يتأثر بالعقوبات. جاء خطاب الرئيس الروسي لينقض ذلك الادّعاء. هنا نلفت النظر إلى أن التفوّق التكنولوجي الذي تمتّعت به الولايات المتحدة على مدة عقود عدّة بعد الحرب العالمية الثانية ناتج عن تطوير صناعة الأسلحة، وإذ نرى اليوم التفوّق التكنولوجي الروسي في السلاح. فتداعياته التجارية ستكون أيضاً ضخمة على الصعيد الاقتصادي الروسي. في الحد الأدنى يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تعد تحتكر الصدارة في التقدم التكنولوجي التسليحي بل ظهر منافسون جدّيون لها. وفي الحد الأقصى أصبحت في مرتبة ثانوية بعدما تصدّرت التفوّق التكنولوجي. نلفت النظر إلى أن الحرب العقول الالكترونية والمعروفة بالحرب السيبرانية أصبحت تسيطر على المشهد المعلوماتي ولما له من تداعيات على التأثير على النشاطات الاقتصادية والمالية والمعلوماتية وعلى الرأي العام. وسائل الإعلام الغربي لا تفوّت فرصة للتأكيد على ممارسات القرصنة الإلكترونية الصادرة عن روسيا والصين وكوريا الشمالية. فإذا كان ذلك صحيحاً، فهذا دليل آخر على تقدّم دول كانت أقل معرفة ومرتبة في التكنولوجيا، ما يدحض مقولة التفوّق الأميركي.
وإذا نظرنا إلى الإمكانيات المتوفرة لدى الروس والأميركيين نرى أن الزيادة في ميزانية الدفاع الأميركي لعام 2019، أي 70 مليار دولار تعادل مجمل ميزانية وزارة الدفاع الروسي، علماً أن ميزانية الدفاع الأميركي تبلغ اليوم حوالي 700 مليار دولار. فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الروس يقولون للولايات المتحدة نحن نستطيع أن نعوّض ما تنفقونه عبر إنتاج نوعي غير متوفّر لديكم حتى الآن وبكلفة لا تتجاوز العشرة في المئة من نفقاتكم. أليس ذلك بدليل عن التغيير الاستراتيجي الذي حصل؟ لسنا متأكدين من أن النخب الحاكمة في الولايات المتحدة ستعتبر وتأخذ على محمل الجدّ هذه التحوّلات. فالمصالح المرتبطة بتثبيت مناخات المواجهة مع روسيا والصين وكل من يعارض الهيمنة الأميركية كبيرة وكثيرة جدّاً. كما أن الذهنية الأميركية لا تأخذ بعين الاعتبار دروس الماضي. في هذا السياق نذكّر بما قاله القائد العسكري الفيتنامي الذي هزم الولايات المتحدة الجنرال جياب. سُئل جياب عن رأيه بالأميركيين، فأجاب: أنهم تلاميذ غير نجباء لا يتعلموّن الدروس!
أمين عام المؤتمر القومي العربي