مي زرقا
هاني الحلبي
تتلمّس دربها، بيد مرتعشة، تعابث مسافات الزوايا لتحصيها، داخل منزل متعرج المسالك، كـ«دروب الإجر» في هضاب القرى.
تحاذر حافة سريرها، كمن يقف على جرفٍ هارٍ، يبتعد عن الحافة تلافياً للسقوط السحيق.
وفي استحقاق الأيام أصعبها شتاء، عندما تشعل المدفأة، كيف تتحكّم بسرعة انصباب الوقود ولا ترى النقطة، وتكتشف نسبتها، وأين تسقط الشعلة فلا يكون نصيبها هبوطاً مأساوياً على سجادة الغرفة، فتقضي اختناقاً حيث ابتعد الأبناء وبقيت وحيدة جلّ أيامها الباردة إلا من ذكرى دفء. واحدهم عاقّ يظن أن خلاص العالم من تحت إبطه، وغيره تسحلهم عجلات الأيام في آلياتها المتسارعة لاهثين لسترة متمنّعة.
هكذا تدور أيامها بلا ضوء، يزاحم النهار أخاه الليل في عبث طفولي، لا يتعبان ولا يطلبان راحة. بالكاد تستشعر ضحكهما شامتين، عندما يتواريان خلف نافذة ضيقة وصغيرة أعلى جدار الغرفة، عصيّة على تسرّب هواء كسول، لحفظ الدفء النفيس في زمهرير بيادر الضيعة.
بصعوبة وافقت أن يكشف عليها طبيب «إبن حلال». ربما بعضهم أولاد حرام. كيف تفحصهم حدساً؟ لا أدري! إنها معايير أنقياء القلوب القانعة بتقية الشيخوخة. «عندك، مي زرقا سميكة، يا حاجّة. آه يا شيخة»، قال لها بحبّ جمّ، فيها ريّ من يناعة المهنة وتواضع الخلق. «ما سمعتْ يا بني»، أجابته مستفسرة. «يا ستّي، عينيك التنتين فيهن مي زرقا سميكة وقاسية، بدهن عملية. ما فينا نعملهن سوا. منعمل للشمال وبعدين لليمين. ع خيرة الله. نسبة النجاح مش كثيرة. بس بدي أبذل كل جهد ممكن»، قال بثقة وهو المعكرون الشهير. إذ تصافحه تشعر بنسمة خفّة من روح علوية تلفح يدك وقلبك.
بين خوف طارئ من جراحة نجاحها غير مضمون وأمل بالخلاص من ظلمة العيش في نفق عالم سفلي معتم، المغامرة محمودة… لكن!
«الدكتور من وين، من زحلة، أكيد مش من جماعتنا، يا حزين، مأدب… محترم. إن شاء لله لخير. شو منعمل. هاد نصيبي»، قالت بمزيج من شكوى دفينة ورضا غامر، تتمنّى لو طبيبها من جماعتها، فلا يلمس وجهها غير أخيها الروحي، لا من «أولاد الشرايع»، لذلك محذور ومحذور… لكنه طبيب. استدراك في محله. ربما هو الاستدراك الأصيل في ركام الطوائف البائد.
بعد ساعات انتظار، في جليد قسم الجراحة، يغطّيها ثوب عمليات رقيق، عادت على حمّالة وعينها مفتوحة والأخرى قبعت خلف زجاجة مغطاة. وجهها أصفر. ربما! ربما! تجمّد الدم في عروقها… و… حصل مكروه لا بدّ منه في أجل ما، «تحت العملية».
رمشت، فارتحتُ… الساعة التي لا ريب لما تحُل بعد.
بعد أن استلقت على سريرها، بصعوبة، «الحمد لله عالسلامة، حاسّة بوجع؟»، أجابت براحة: «تحمّدوا ربكن عالخير. لا الحمد لله، ما حسّيت ع شي، بردانة بس». ويأتي دانيال الأبيض، «الحمد لله! العملية نجحت، ولكن!». هذه الـ«ولكن» لو رأيتها لسحقتُها.
والـ«لكن» عند دانيال، لائحة نصائح استغرقت ثلثَي ساعة من العرض والوصايا المئة، «حذار، لا، إصحا، انتبهوا»، أيّ التهاب يعني اضطرار لقلع العين… لكنها انتهت في نهار واحد وبعد ساعتين كنّا قد خرجنا فرحين أننا إليه … إلى البيت راجعون.
ألّا تراك أمّك، فأنت غير موجود، في عالم الحبّ. أنت نكرة من دون عينيها. فكيف إذا كان كلّ فيروز العالم دفنته «مي زرقا» فاختفى محار البحار في قاعها تحت غطاء زبد معتم؟
الآن انكشف الزبد وعاد المحار أزرق وأخضر وموشحاً بريشة علوية من آلهتنا نحن، من سمائنا نحن، من سحر هوائنا نحن، من طبيعتنا نحن، ويفوح منها زعتر البراري وزيزفون الحقول والبساتين، وقصعين الخلالي والجلول. محار يلمع من خلف عدسة تحمي وتعيد النور إلى مسرابه الأزليّ… من روحها.
الآن أمّي تراني قليلاً… وكفى!
تحية لأمّي في عيدها السنويّ، ولكلّ أمّ مباركة بالنقاء والرضا. لعلّه يكون ضوءاً لعينيها ونبضاً لقلبها.