جورج خبّاز يحاول أن يعالج الفالج… ويعرّينا!
أحمد طيّ
فعلها هذه المرّة عبقريّ المسرح اللبنانيّ جورج خبّاز. وضع يده على الجرح الذي لن يندمل بعدما أضحى «غرغرينا» أتت على معظم المجتمع. سمّى هذه المرّة بالأسماء، وأظهر عيوبنا إلى أبعد من صورة كاريكاتورية، مَسرَحَها بصورتها الحقيقية البغيضة، وإن أتى ذلك بلهجة ساخرة مضحكة… فوالله كنّا نبكي في جوّانيتنا أكثر من ضحكنا في الظاهر!
فعلها هذه المرّة جورج خبّاز. لم يوارب، لم يهادن، لم يترك لنا مجالاً لنكتشف بأنفسنا. لم يُغنِ مسرحيته هذه المرّة بالكنايات والتشبيهات والاستعارات. بل حاول ملء موهبته الفذّة الخلّاقة، أن يعالج فالجاً لطالما استشرى في جسم المجتمع اللبنانيّ، فنجده يعرّينا، ويقول لنا: «هذا هو الداء، وتينك الدواء، فاختاروا»!
واجَهَنا جورج خبّاز بكلّ ما فينا من عيوب، من طائفية، من مذهبية، من ادّعاء كلّ منّا أنه المختار من عند الله والباقون… لا إله يصطفيهم.
واجَهنا بلوثاتنا، بتمسّكنا بأصول وفصول وادّعاءات بالتفوّق، وبأننا كلّما تشبّثنا بهذه المعتقدات البالية، ابتعدنا عن الحلول لمشاكلنا، وسرنا بعلمنا وبغبائنا إلى التهلكة.
واجَهَنا بكذبتنا الكبرى «التنوّع في لبنان… يغنيه»، فإذ بهذا التنوّع يُلاشي هذا اللبنان.
هي مسرحيّة «إلّا إذا»، التي يواصل الفنان الراقي جورج خبّاز تقديمها على خشبة شاتو تريانو، والتي ستُعرَض مع أوركسترا موسيقية في مهرجانات بعلبك المقبلة. مسرحية أضحكتنا من ألِفِها إلى يائها، من الستارة إلى الستارة. وعرّتنا من كذبنا الذي يلبسنا حدّ الالتصاق بجلد كلّ منّا.
القصّة تدور حول مبنى بيروتيّ كانت خطوط التماس تحاذيه، وسكّانه من أطياف ـ عفواً ـ طوائف لبنانية عدّة. المبنى يواجه مشكلة كبيرة وحلّها ضروريّ وملحّ، فهو آيلٌ إلى السقوط فوق رؤوس قاطنيه: «حسين الشيعي» جورج خبّاز وزوجته «زينب» مي سحّاب ، «الياس الماروني» جوزف آصاف ، «هاروت الأرميني» أسبيد كاجادوريان ، «عمر السنّي» غسان عطية ، «طلال الدرزي» وسيم التوم ، «الأرثوذكسي» جوزف سلامة ، و«جوانا الكاثوليكية» سينتيا كرم . فيما يسكن في إحدى الشقق العلوية، جارهم المسنّ «أبو رائد العلماني» القدير عمر ميقاتي .
وما هي إلا لحظات من بدء الحكاية على لسان النجم جوزف ساسين ناطور المبنى الفلسطيني المهجّر الحالم بيوم العودة ، حتى نعي أنّ هذا المبنى هو هذا اللبنان، وأنّ هؤلاء السكّان هم اللبنانيون جميعاً، تفرّقهم الطائفية والأصولية وحبّ الذات والملّة، وتجمعهم هنيهات قليلة حين أداء النشيد الوطني… لا بل لازمة النشيد الوطني لا المقاطع كلّها.
لا يأتي هؤلاء السكّان المجتمعون المتفرّقون بأيّ جهد إنقاذيّ لوقف تداعي المبنى وانهياره كاملاً. جلّ ما يتقنه كلّ منهم، التغنّي بالطوائف، والتغنّي بالأصول، ومهاجمة بعضهم عندما تتقاطع الآراء، و… «يا غيرة الطايفة»!
إلى أن تأتي بناءً على طلبهم، الإعلامية اللامعة «جاهدة غندور» لورا خبّاز ، لتصوّر تقريراً عن حالة المبنى الآيل إلى السقوط، وتوصل أصواتهم إلى المسؤولين علّهم يلتفتون إليهم قبل فوات الأوان. لكن جاهدة، ومن دون جهد، اكتشفت المشكلة الأساسية، اكتشفت تفرّقهم وطائفيتهم المقيتة، واكتشفت مثالبهم ولوثاتهم، وعبثاً حاولت الاجتماع بأبي رائد العلماني، ليقينها بأنّه وحده يملك الدواء لهذا العضال، لنكتشف قبل إسدال الستارة أنّ أبا رائد قد قضى في غرفته، ولم يدرِ به أحد.
عبثاً حاولت جاهدة أن توقظ في جوّانية كلّ فرد من سكان البناية من سباته، من مرضه، فكلّما اقتربت خطوة، يُرجعها المجتمع المنقسم خطوات. لتلجأ نهايةً إلى حيلةٍ قلبت الأدوار رأساً على عقب. إذ أجرت ـ خفيةً عن قاطني المبنى ـ فحوصات «DNA» متطوّرة على دمائهم بعدما خدعتهم بأخذ عيّناتٍ منهم. هذه الفحوصات تُرجِع كلّ واحدٍ منهم إلى أصله، وإلى المكان الذي تحدّر منه. ليكتشف «حسين» أنّه «مارونيّ»، و«الياس» أصله «سنّي»، و… هكذا.
وما أتحفنا به جورج خبّاز، أنّه جعل شخصياته تتمترس حول «أصولها» الجديدة. فـ«جوانا» التي كانت نسخةً عن سيدات الأشرفية مدّعيات التطوّر والتمدّن والفرنسة التعلق بـ«التحضّر الفرنسي» ، وبعدما اكتشفت أنّها بالأصل «شيعية» من النبطية، سرعان ما سحرتنا بأدائها اللهجة الجنوبية بكل حِرفية وتميّز. كما أنّ جوزف آصاف، أضحكنا كثيراً عندما انبرى ليهدّئ الجميع قائلاً: «صلّوا عَ النبي»، وهو الذي كان طوال المسرحية يهاجم المسلمين انطلاقاً من مارونيته.
حاول جورج خبّاز في هذه المسرحية أن يعالج الفالج، فعرّانا، وعرّى معنا دولةً لا تزال تتغنّى بتنوّع لبنان الذي يغنيه ويثريه، وهي في الوقت ذاته تواصل شرذمة هذا الشعب، من خلال نظام حكم طائفيّ مذهبيّ تحاصصيّ، يرسّخ الفالج في النفوس وفي النصوص.
ولم ينسَ جورج خباز أن يُظهر العلمانيين في هذا اللبنان، بمظهر العجوز، اليائس من هذه الأوضاع كلّها، المستسلم للموت. لكنّه في الوقت ذاته، يبني آمالاً على جيل جديد يتمثّل بـ«جاهدة» الإعلامية الفذّة.
ختاماً، تعوّدنا من جورج خبّاز أن يسمح بعرض مسرحياته على شاشات التلفزة بعد سنة أو أكثر من انتهاء عرضها على خشبة المسرح. إلّا أننا اليوم، نطالبه، لا بل نستحلفه بأن تُعرض هذه المسرحية على التلفزيون وفي دور السينما وعلى «يوتيوب» وعلى «فايسبوك»، وحتّى في الساحات العامة، قريباً جدّاً… لا لشيء، فقط ليستفيق هذا المجتمع من غيبوبته.