ملكة من دون عرش

المرأة الوحيدة التي حصلت على جائزة «نوبل» مرّتين بفضل اكتشافها اليورانيوم وعملها الدؤوب لخدمة البشرية، كتبت «مدام كوري» رسالة لزوجها بعد مماته: عزيزي «بيار» لقد عرضوا عليّ أن أخلفك في مقعدك في الجامعة، فقبلت ولست أدري إن كنت مصيبة أم مخطئة؟ حبيبي «بيار» إنني أفكر فيك بلا انقطاع. ورأسي يحترق وأكاد أفقد عقلي، كيف سأعيش من دونك؟ لكن انظر الأشجار بدأت تزهر والورد يتفتح وقد كنت تحبّ ذلك من أجل الإنسانية سأواصل عملي.

كانت «مدام كوري» تكره كل مظاهر الشهرة والمجد، وكانت تعتبر نفسها سجينة مقيّدة بالأغلال رغماً عنها للعرض على الجماهير ورجال العلم في الندوات والحفلات، لذا كانت تحرص على عدم إرتداء القبعة والرداء الجامعي حتى لا تتميّز عن الموجودين، ولا تهتم للألقاب والنياشين التي تنهال عليها بغزارة، وكان الشيء الوحيد الذي تحرص عليه في كلّ هذه المظاهر، هي قوائم الطعام التي توزّع في المآدب التي تقام لها، والتي كانت تحتفظ بها ككنز ثمين وذلك لأنها مصنوعة من ورق سميك وقوي يلائم تسجيل المعادلات الرياضية على ظهورها البيضاء. وكان زوجها يحذو حذوها يكره الشهرة ويشعر أنها تعوق أبحاثهما وتبدّد طاقتهما فيما لا جدوى منه. وكانت هي تتنكر أحياناً كي تنعم بيوم راحة تقضيه في الريف مع أسرتها الصغيرة. وتبذل كلّ جهدها كي تختفي عن أنظار الصحافيين. وحدث ذات مرة أنّ صحافياً أميركياً راح يتقصّى أخبارها حتى علم أنها تقيم في قرية صغيرة من قرى الصيادين في مقاطعة بريتاني الفرنسية، فتوجّه إلى تلك القرية وسأل عن الطريق المؤدّي إلى كوخ «آل كوري». وهناك وجد على الباب امرأة بسيطة المظهر ترتدي ثوباً أسود وتجلس على عتبة الباب حافية القدمين حسبها الخادمة. ولما سألها هل أنت مدبّرة المنزل؟ أجابت: نعم ولم تكن تكذب، عاد يسأل: هل السيدة في الداخل؟ وكان الرد: إنّها في الخارج.

ومضى يطرح الأسئلة بعد أن جلس إلى جوارها على درج السلّم المنخفض: هل لك أن تخبريني بشيء طريف عن حياتها الخاصة. كان جواب «ماري» التي حسبها الخادمة: لا شيء لديّ، سوى رسالة من «مدام كوري» للصحافيين. قلّلوا من اهتمامكم الفضولي بالناس. وكثّفوا اهتمامكم بالمبادئ والأفكار!

قال عنها آينشتاين: «إنّها الشخصية العظيمة الوحيدة في العالم التي لم تفسدها الشهرة والألقاب».

حكاية «مدام كوري» رسالة موجّهة لكلّ من يتكئ على شهرة قريبة ـ زوج أو أب أو أخ أو ابن عم ـ ويظنّ أنه فوق البشر وفوق القانون، شهرة لن تصل بأي حال من الأحوال لشهرة العظماء الذين تركوا للبشرية إرثاً خالداً في مجلات شتّى ليسعوا إلى شهرة أنفع لهم وأجدى قوامها طاولة ومقعد. شهرة تلخصها جملة قديمة لا ينتبه لها أحد ـ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى