«فأر الورق»… نقد في زمن أشباه النقّاد
أحمد طيّ
مرّة جديدة يبهرنا الكاتب والناقد والشاعر والزميل طلال مرتضى، بمقالات نقدية، تناول فيها كُتباً ودواوين شعرية صدرت خلال سنة أو سنتين.
وإن كنّا على عِلم بتلك المقالات، إذ إننّا من متتبّعي الكاتب في جرائد محلية وعربية وأيضاً في مواقع إلكترونية عدّة، إلّا أنّ متعة تذوّق تلك المقالات في كتاب واحدٍ، تفوق قراءة المقال في حينه. وتعيد إلى ذاكرتنا الكتب والدواوين التي تناولها.
«فأر الورق»، عنوان المنجز الجديد لطلال مرتضى، والذي أتى بعد سنة واحدةٍ فقط على كتابه الآخر «قراءات تغوي الريح». ليغوينا مرّة جديدة، ويجعلنا نتوق لقراءة أسّ ما تناوله، بمعنى أن نهرع إلى اقتناء الكتاب الذي كتب عنه، روايةً كان أو ديواناً، أو أيّ منجز آخر.
كيف لا، وهو ـ أي طلال ـ صاحب الحبر المسكوب في الورق، نقداً بنّاءً تقويمياً يحثّنا ـ كقرّاء ومؤلّفين وحتى ناشرين ـ لأن نتبع الصراط المستقيم في عالم الكتابة. ولعمري، ما عرفت طلالاً إلا ناقداً حقيقياً، ومناقشاتنا وحواراتنا اليومية تشهد على ذلك.
هو الذي لا يرحم المتعدّين على الأدب والشعر والرواية فيرجمهم بوابل من الكلام القاسي إنما المهذّب، ولا يرحم معهم ناشراً يجعل من المهنة تجارة فقط. بمعنى «اطبع واطبع واطبع… واربح»، غير آبه بالمادة المنشورة أو المطبوعة، إن كانت شعراً أو تعدّياً سافراً على الشعر. إن كانت روايةً، أو ما يشبه مواضيع الإنشاء والتعبير. إن كانت لغةً، أو أسطراً زاخرةً بالأخطاء الإملائية والنحوية وحتّى الطباعية.
وفي الوقت نفسه، نجد طلال مرتضى كرواناً يغرّد أيّما تغريد، عند يقع بين يديه كتابٌ يغويه، ويجعله يطير يسير الكلمات صدّاحاً. فتراه يمدح ولا يمنّن، ويُطري ولا يبيع إطرءاه. فقط هو يقول الحقيقة كما حلّلها، وكما تراءت له وجعلته يرينا إياها.
«فأر الورق»، كتاب جدير بالاقتناء، وهو ـ إلى جانب سابقه ولاحقه ـ يعدّ مرجعاً حقيقيّاً لنقد الشعر والرواية العربيين، نلجأ إليه كلّما استدعتنا الحاجة.
الكتاب صدر مؤخراً عن «دار بعل» السورية، ونقرأ على غلافه الخلفيّ للكاتبة جميلة حمود: «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، يحمل في أعماقه وطناً منكوباً ما غادره رفّة عين. هو الآتي من شوارع الحزن، تاركاً وراءه الياسمين محتضراً، لكن مزنه الباطلة فوق الركام أروت جذوة الحرف فاهتزّت الأرض وربت.
إن كان لكلّ ناقدٍ أسلوبه في تقييم الإبداع الأدبي بحسب الموازين والمقاييس ومدارس النقد الكلاسيكية والحديثة، فإنّ للأديب طلال مرتضى مقدرة هائلة على كسر النمطية المتّبعة في هذا الميدان. فهو لا يخضع لقواعد ثابتة، يبتدع لنفسه ما يلمسه في النصّ، فهو المتمرّس في محاله يؤمن بفكرة تحصر غاية اللغة في الأدب لا العكس.
فالإبداع بنظره، هو في الرمزية والإلهام، في إمكان المستحيل، وتحويل العادي إلى الخارق. إنّه حتماً ليس في الصرف والنحو، ولا في المحسّنات البديعية.
وهنا نراه قد كسر رؤوس الصنمية، وعلّق الفأس في رأس كبيرهم، منتصراً لميخائيل نعيمة القائل: إنّ غاية النقد ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدوّنه قسم من الناس من أفكار وشعور.
وأيضاً لغة ثانية تحلّق فوق اللغة الأولى حسبما يرى رولاند بارت الذي طوّر المدرسة البنيوية.
هنا يُكافَأ القارئ بما يدهش وغير المتوقّع.
هذا حرث لكم، فآتوا حرثكم أنّى شئتم، وصدق حرف طلال العنيد».
مبارك لطلال مرتضى منجزه الجديد «فأر الورق»، ولوطننا الحبيب الفخر بأبنائه، مقيمين ومغتربين.