من الإبداع القوميّ
محمّد يوسف حمّود
الواحة المقفرة
يوم أتم رسالته،
وختمها بدمه .
لا تلوموه إن مضى
مشرعاً خلفه دمَهْ
فالطريق الذي ارتضى
سار فيه… وتممه
إنما العمر، خطوةٌ… كل معناها
التفات الإنسان للإنسانِ
ووفاء لقلبه… مطمئنٌّ
وفناء في وحدة الإيمان
وحياة النسور، وقفة عز
وانطلاق على جناح الأماني
يتساوى، من بعدها، قَصُر العيش
أم امتد في قياس الزمان
وفي أول الربيع، طواها
وقفة وانطلاقة… في ثوان
مرسِلاً كالمنار هالةَ نور
من شذا غامر وذوب قان
يتملى لبنان أطيبَ ما فيها
من الضوء والرؤى والمعاني
إيه، يا رائد الزوارق في البحر
ومجذاف سوريا اللبناني
أنت باقٍ… حيٌّ بما أنت فينا
ملء وعي الآفاق والشطآن
كم على الأرض، من مجارٍ قواذيرَ
وكم تحتها من الغدران
إيه يا أولَ الربيعْ
عُد إلى واحدة الشبابْ
وتلفّتْ… تر الجميع
قلبوا الكاس والرباب
كلما استرجعوا خيالك، هزتهم
من الأمس رعشة في الفؤادِ
وتمادوا في الذكريات… كما لو
كنتَ ما زلت بينهم في النادي
واستفاقوا على التولّه… فالأعماق
حرّى، إلى نداك صواد
وتراءيت في البعيد… وحيداً
بين فكيْ غدر الزمان العادي
تَجبْهُ الموت… لا سلاحَ سوى البسمة
ترنو… إلى يد الجلاّد
آه، يا لوعة الحبيب تناديه
فلا تسمع إلا الآهات في الأبعاد
آه، يا لهفة الرفاق إلى وجهك
يبدو في طلعة الأعياد
آه… يا وحشة الفراغ… إذا الواحدة
نادتك… يا فتاها الشادي
أين يا رائد الشباب نلاقيك؟
سئمنا تباطؤ الميعاد
أقفرت واحدة الجمال… فما فيها
سوى الليل، والصدى في الوادي
لا تلوموه إن نأى
عن رؤاه المحبَبه
يهرب اللحن إن رأى
واحة الفن مجدبه
غابت الشمس، عن مشارف دنياه
وغصت آفاقها بالضياء
وادلهمت أجواؤها… فعلى الأرض
ظلام يلف وجه السماء
وتوارت على ذراها المصابيحُ
وكانت منائرَ العلياءِ
والربى استوحشت… مغاور لا يسمع
منها غيرُ انفلات العواء
ومجاري الأنهارِ… آهاتُ صنينَ
على سفح جبهة الكبرياء
تتهاوى فيها الحياة… انهياراً
وانحداراً… إلى شطوط الفداء
حيث لم يبق في مدى اليمّ، إلا
طائر… أبيض الجناحين ناء
حيث لم يبق من زوارق لبنان
سوى حفنة من الأشلاء
حيث لم يبق في الملاعب، إلاّ
همساتُ التاريخ والشهداء
هي نجوى آذار… باحت لتموز
فدوّى نفيرها بالنداء
لا تلوموه إن مضى
مشرعاً خلفه دمَهْ
فالطريق الذي ارتضى
سار فيه… وتممه
وغداً… عندما رفاق لياليه
يعودون بعده لليالي
يستردون كلّه… كلما انهلّ
خيال من خاطر في بال
ويحيون، باسمه، واحة الحب
لتحيا… كعهده، بالجمال
وإذا ما عهودُه هتفت تسأل
عنه… وأجهشت في السؤال
عاينتْه على عيون مريديه
ضياء… وصورةً في الخيال
ورأته في جوهم يتهادى
مثلما كان في أتم مثال
هاتفاً: ما الحياة في الأرض إلا
وثبة النسر للمدى المتعالي
فانطلاقاً إلى الذرى يا رفاق
الأمل الحلو، يا نسور المعالي
إنما العمر، خطوةٌ… كل معناها
التفات الإنسان للآمال
يتساوى، من بعدها، قَصُر العيش
أم امتد في قياس الزوال
جُرح البُطولة
بعد الكارثة في فلسطين،
وقبيل انتفاضة لبنان
الجرح ينطق يا فمُ، دم الفدى يتكلمُ
فاسكت..فإنكَ إن تكلمت الجراحُ..لأبكمُ
ماذا يقول الحرف في الشفتينِ إن قال الدمُ؟
وطني..سألتك ماذا أقولُ..وأنت أنت الملهمُ
ما أنت يا واحَ الأماني..لليتامى ميّتمُ
في كل بيت من بيوتك للكرامة مأتمُ
فعلى ذراكَ الشمّ يا وطناه تبكي الأنجمُ
وعلى سمائك من دجى الأيامِ، ليل مظلمُ
والجرح، في صدر الكرامة، ثائر يتضرّمُ
لكأنّه،والثأر يصرخ في جوانبِه..قمُ
ملآن بالألم الأبي..وبالتمرد مفعمُ
وكأنَ مجدك، أمة، بفم العلا تتألمُ
أو زأرة الأسد الجريح..تنال منه الأسهمُ
وطني،سلمتَ فنحن لم نهزم، ولسنا نهزمُ
لا يُسأل السيف المجرد، إن تراخى المعصمُ
سيردد التاريخ، إن الغادرين بنا، همُ
أنا لا أسميهم ..وهاتيك العواصم أعلمُ
فلطالما التأموا على شرفاتها..وتنعّموا
ولطالما سهروا الليالي السامرات..وكرّموا
حتى إذا التفت النهار المستفيق إليهم
وتساءلت عينا فلسطين الشهيدة عنهمُ
لم يبدِ وجه منهم..فهمُ هنالكَ نوَّمُ
وطني اطمئنّ..فجيلك المئناف، باسمك يقسمُ
أن سوف يثأر للكرامة من عداك..فتسلمُ
جيل من الرفقاء..بالوطن الحبيب متيّمُ
باسم الحياة، تعلموا الإيمان فيكَ..وعلّموا
قسماً بمجدك، لن نذلَّ، وفي رباك معلمُ
يا باعث الآمال فينا..والقنوط مخيّمُ
يا حامل المشعال..والدنيا لنا تتجهمُ
بوركت..أنت فتى الربيع المنشد المترنّمُ
إن الضحايا، يا بلادي، للمعالي سلّمُ
وبكلِ جرح من جراحك، يا بطولة، برعمُ
تتبسّم الآمال في ألوانه..وتتمتمُ
نهوى البطولة،أن نرى جرح البطولة يبسُمُ.
يا بقايا السُيُوف
… وبعدها
إلى السجن .
يا بقايا السيوف، في ساحة الجلّى
تباركتِ من سيوفٍ حِدادِ
صَدئ النصر في غرارك، والأمجاد
جفّت على الشفار الصوادي
والهتافات، زغردات البطولات
اختناقاً، تضجّ في الأغماد
والمروءات، في المقابض، تشكو
العنكبوت المحتلّ فوقَ النجاد
أيّ معنى للسيف، إن علّقوه
تحفةً… في متاحف الأمجاد
حدّثينا، فأنتِ ألسنةُ المجد
وأسطورة الفدى والفادي
فيكِ من أمتي، زوابعٌ للثأر
على جرحها الأبيّ تنادي
فانتفاضاً على العدى، يا مواضي
وقفةُ العز، واصطراع المبادي
أقسم الموت، ليس يأكل إلا
من بقايا السيوف لحم الأعادي
هاكِها نهضةً، تلفتت الدنيا
إليها… خلاّقةً في بلادي
نهضة، من مشارف الأرض: لبنان
تعالى نداؤها والمنادي
عمّدتها يد الفداء، بفيض
من دماء، في موج استشهاد
وطريق الحياة، سلّم مجدٍ
من ضحايا حقيقة واعتقاد
نحن سرنا… ولا مفرّ من النصر
لمن سار في طريق الجهاد
نحن في وثبة الحياة، جناحا
أمة، والعلى على ميعاد
وأنا الشاعر الجريح، يراعي
من ضلوعي… ومن دمائي مدادي
بلسمي: كبرياء حقي… وحسبي
بسمة الجرح أن تكون ضمادي
من مجموعة «في زورق الحياة»، 8 تموز 1954