حضورٌ أدبيٌّ تجاوزيٌّ مختلف… أمين الذيب يطلق «ملتقى الأدب الوجيز»
حاورته: اعتدال صادق شومان
بين تنامي ظاهرة المنتديات الأدبية على الساحة الثقافية في لبنان، وانتشارها المتزايد خصوصاً في المقاهي، ملاذها التاريخي، منذ كانت للمقهى هويّته الثقافية على غرار الصالونات الأدبية، ملتقى أهل العلم والأدب والسياسة.
وبين القول إنّ الشعراء فقدوا منابرهم، وهجرهم أتباعهم «الغاوون»، والتصريح بأنّ الأدب تراجع عن قيمته ومكانته وتأثيره، وأنه فشل في الدور المناط فيه من طرح الأسئلة ومنح المعرفة.
بين ذلك كلّه، يدلف متتّبعو حركة المنتديات إلى فضاء الحيرة، ويعترض قناعاتنا عدد من التساؤلات، بين أهمية المجالس الثقافية، وبُطلان مبرّر وجودها، في زمن وسائل الاتصال، وتقنيات المواقع الإلكترونية، بمنظومتها المعرفية الجديدة والمختلفة، ومع الإقرار لهذا الواقع بالفضل الوارف في إتاحته المنبر الفضائي لمتذوقي الفنون الثقافية.
في ظلّ هذه المنصّات الإعلامية المبتكرة، يُطرح السؤال: ما هو دور المنتديات الأدبية على اعتبارها الهامش والمكان لتلاقي الأفكار على مسار الوعي والارتقاء؟ إنّ صح الادّعاء بأنّ هذا الجيل لا يقرأ، فما لزوم إقامة المنتديات والأمسيات الشعرية؟ ومن هم روّادها؟ وما هو نتاجهم الثقافي؟ وهل يشكّل فعلاً نتاجهم إضافة تميّز تثير السجال والجدال كما في ذاك الزمن الذي كان مسكوناً بالكبار؟ أم أن مخزونهم ضامر مخصّب بالترّهات حيث السائد الاستهلاكي من الكلام؟ وهل صحيح أن هذه المنتديات، مجرّد جلسات «حكي وسمر» ونارجيلة يلتقي إليها الحاضر على الغائب، والمختلفون معها يمارسون الافتراء على الثقافة مع الإقرار بأنّ هناك منتديات رائدة في هذا المجال وفي مقدّمها «منتدى شهرياد الأدبيّ» السبّاق في هذا المجال، إذ تمكّن في إرساء دوره الجدّي والمحوريّ، الذي يكرّسه أسبوعياً منذ سنوات عدّة، وصار له فروع في مناطق عدّة من لبنان.
واليوم، يتجدّد المشهد الثقافي مع «ملتقى الأدب الوجيز»، الواصل الجديد إلى ساحة المنتديات وما زال في طور التأسيس. فوجدنا من الصواب، وما يمليه علينا الواجب، أن نحمل إليه تساؤلاتنا، سواء كانت محقّة أو مجحفة، وأنّنا حقاً بصدد استثناء مُجِدٍّ في أحوالنا الثقافية، وينبئنا بأنّها «عن جد» بأحسن حال وأنّ الساحة الثقافية ليست خالية، ولم ينصب لها خبر، وما زالت قادرة أنّ تنتج واقعاً له رموزه الثقافية والفكريّة الصاعدة.
«الأدب الوجيز» التقى، بدعوة من الشاعر والناقد أمين الذيب مع هيئة تأسيسية تحفل بأسماء متميّزة، أمثال الأديبة الدكتورة مهى خير بك ناصر، الشاعرة سناء البنا، الدكتورة درّية فرحات، الشاعرة لارا ملاك، الشاعر مكرم غصوب والشاعرة نهى الموسوي.
على هامش ملتقاه الرابع الذي يعقد مساء الخميس من كل آخر شهر، وكان لنا هذا الحوار مع مؤسّسه أمين الذيب.
لماذا «ملتقى الأدب الوجيز»؟
ـ «ملتقى الأدب الوجيز»، حركة فكرية، تبحث عن الابتكار الذي هو شغف الحياة ورمزيّتها، بمعناه التجاوزي المرتكز على ألق الفكر الإنساني الهادف بكينونته إلى الارتقاء والتقدّم. الغاية هي إدراك الجوهر، البحث عن النواة الثائرة. فالكون لا يحتمل زيادة في التكرار، إنّما بما يُضيف إليه الفكر والمُخيّلة من عناصر المُفاجأة والإبداع .
يتمظهر الأدب الوجيز باقتصاد كبير في اللغة، أي كلام قليل ومعنى كثير. لا تماهيّاً مع العصر الجديد بقدر ما هو حضور أدبيّ تجاوزيّ، بدأ يتموضع كنظرة جديدة إلى المفاهيم الأدبية التي تعاني أعراض المتلقّي، خصوصاً الجيل الجديد، المنغمس بما طرأ من وسائل حديثة، كشبكات التواصل الاجتماعي وما أتاحته من فرص معرفيّة متوفّرة بسهولة عمّمت المعرفة وطبعت العصر بطابعها. وكي لا تموت القصيدة والأنواع الأدبية ذات المطوّلات المملّة والعاجزة عن التفاعل مع متطلّبات المرحلة، يعتمد الأدب الوجيز على التكثيف والذهاب إلى اكتشاف طاقة المفردة للوصول إلى مغامرة المعنى ـ الفكرة في أقصى حدودها .
ما هو الدور الإضافيّ المتوخّى من هذا الملتقى؟
ـ كنّا نلاحظ منذ زمن أنّ الأدب الراهن ما زال يعتمد الاكتفاء الدلاليّ في صيغه المتعدّدة. وفي وقتٍ يذهب العالم إلى خصائص مغايرة في العلوم حيث المدارك العلميّة متوفّرة بإسهاب في عقول الأجيال الجديدة، وكي لا تموت القصيدة، أطلقنا فكرة الأدب الوجيز، شعر الومضة والقصّة القصيرة جداً، كنوع أدبيّ متجدّد يجب أن يتموضع كحالة تجاوزية تؤسّس للمستقبل الذي يكتظّ بالتقنيّات والاختصاص. هذا التطوّر يفرض بتداعياته تطوّراً في المفهوم الأدبيّ بمعنى فكر جديد يواكب سياق التطوّر الإنسانيّ. فالاختصار في اللغة يعني الانغماس في جوهر المعنى واستنباط طاقة المفردة بكثافة تتمكّن من إرسال مجموعة من المعاني إلى ذهن المتلقّي، وكأنّه مشهد سينمائيّ يمكن أن يتكاثر لدى المتلقّين بحسب تنوّع تجاربهم الثقافية الفكريّة. وكنّا نلاحظ أيضاً أنّ غياب النقد الموضوعيّ وتراجع المدارس النقدية عن دورها، انعكس على المشهد الأدبيّ العام، بما بات يهدّد حضارتنا وقيمنا ومثلنا العليا. كما ساهم هذا الغياب بالغزو الثقافي الذي بدأت ظواهره تتمدّد خصوصاً على صفحات التواصل الاجتماعي.
«ملتقى الأدب الوجيز» يحاول أن يعيد إلى الأدب أصالته ويحصّنه من الانفلات والتسطيح، كي لا تتشظّى روح الأمّة في اندراجات مغايرة لخصائصها وقيمها .
أمّا عن دور الملتقى، فنحن ما زلنا في مرحلة التأسيس الهادفة إلى بعث نهضة تتصدّى لهذا التشلّق الحاصل في جسد مجتمعنا نتيجة الهجمات التكفيرية والاستعمارية، والتي تسعى جاهدة إلى طمس حقائقنا ومعالمنا وحضارتنا ومحو ذاكرة أجيالنا لفكّ ارتباطها بالأرض والحضارة. أنا أعمل على فكرة التجاوز منذ أكثر من خمس سنوات، وقد كتبت عدداً من المقالات التنظيرية دعماً لهذه الفكرة، وعندما دعتني وزارة الثقافة التونسية للمشاركة بالمهرجان الشعريّ المختصّ بشعر الومضة، طلبوا منّي المحاضرة في هذا الشأن. وبعد حوار ومناقشات مع عددٍ من النقّاد والشعراء والأدباء والأكادميين هناك، تبنّى الجميع موضوع محاضرتنا وتمّ التوافق على إطلاق «ملتقى الأدب الوجيز»، كدلالة عن شعر الومضة والقصّة القصيرة جداً، كي يتموضع كنوع أدبيّ جديد .
كيف يتم اختيار روّاده؟
عن اختيار روّاده، نحن ندعو أصحاب الاختصاص والموهبة من شعراء الومضة، والقصّة القصيرة جداً، بحضور ناقد صادق ومتخصّص. حقيقةً، نحن نعتقد أننا لا نشبه نموذج المنتديات المنتشرة في لبنان، وظيفياً ودوراً ومتوخّى أي الغاية. غايتنا بعث نهضة فكرية ثقافية فنّية تعيد إلى الأمّة روحها ودورها الرياديّ، مع أنّنا نؤمن بأهمية أيّ منتدى يقوم أو يستمرّ، لقناعتنا أنّ الكلمة هي رافعة أساسية لخروجنا من محنتنا المتمثّلة بالانقسامات الطائفية والمذهبية، وبالحركات التكفيرية والغزو الثقافي. إن أيّ كلمة تقال هنا وهناك هي شمعة تضيء عتمة التخلّف الذي أصاب مجتمعاتنا.
هل تفكّرون في إصدار محتوى معرفيّ يغطّي اهتماماتكم الفكرية؟
ـ نشأت لدينا في الملتقى فكرة مطبوعة توثّق المقالات التنظيرية لفكرة الأدب الوجيز، إضافة إلى الندوات التي أقمناها لهذا الهدف. طبعاً، نحن ندرس إقامة موقع إلكترونيّ، لما في ذلك ضرورة وأهمية لمرحلة تأسيس تجاوزيّ لأنواع أديبة جديدة، كشعر الومضة والقصّة القصيرة جداً، كي نستطيع أن نغطّي انتشارنا في بيروت والفريكة وطرابلس والجنوب والبقاع. كما أنّنا نُجري اتصالات في الشام والعراق بهدف تعميم هذا النوع الأدبيّ الذي نعتبره أدب المستقبل.