يوم يفرّ الرسل
عبد الرازق أحمد الشاعر
ذات قيظ، تسابق نصر الدين جحا مع رفاق له، ولأن الطريق كانت وعرة وطويلة، أجهد المتسابقون حميرهم. فلما رأى الرجل العرق يتفصّد من رقبة مركوبه، أمسك اللجام وشده إليه، ثم قفز على ساقين من خجل، وأمسك برأس حماره يجرّه إليه، ليربّت فوق جبينه الأغر، ويمسح بطرف ثوبه ما ندّ عنه من عرق. كل هذا والرفاق ينظرون إلى جحا وقد فضحت إنسانيته بداوتهم وغلظة أكبادهم. لكنهم استغرقوا في ضحك غير منكور حين وجدوا نصر الدين يقترب بفمه من أذن حماره ليسرّ إليه بحديث لم يتناهَ إلى أسماعهم.
وبدافع من فضول، سأل الرفاق صديقهم عما أسر به. فأخبرهم جحا أنه كان يسري عن حماره ويعتذر إليه ليهون عليه قلة الزاد وبعد السفر، فاستنكر أحدهم ذلك. وقال: «يا جحا، لا تفهم الحمير لغة البشر.» فرد جحا: «أفعل ما يتوجب عليّ فعله كإنسان، فإن لم يفهم الحمار، فهذا شأنه.»
لا عذر لمن يتوقفون عن التوجيه في رأي الفيلسوف المهرّج، حتى وإن كان المتحدّث والمستمع لا يتحدّثان اللغة نفسها، ولا يجيد أحدهما النهيق والرفس. فحمق المستمع لا يبرر أبداً سكوت الأنبياء عن تأدية النصح ومسح العرق. صحيح أن الرسل لا يهدون من أحبوا، وصحيح أن الله وحده يهدي من يحبّ، لكن التخلي عن تأدية واجب التبصير ونشر الوعي هروب غير مشروع إلى متن فلك مشحون متهالك، وهو ما لن يؤدي في النهاية إلى أي برّ.
في الآونة الأخيرة، شهدت الساحة الإعلامية والدينية والثقافية هروباً جماعياً من قبل أرباب الفكر والقلم، بعد أن أدركوا في أعماقهم أن لا سبيل إلى إصلاح ما أفسده العطار. ووجدوا في تراثهم الثقافي وموروثهم الديني ما يزهدهم في الظهور على الفضائيات وامتطاء صهوة الوقت. فتركوا الساحة خاوية على ثغائها، وتركوا الدفة والمرساة لأصحاب الفكر السخيف والمتفيقهين، فكانوا كذي النُّون الذي أبق إلى الفلك المشحون، فأعادته الظلمات إلى النور، بعد أن أدرك أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
قديماً، ظل نوح يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل. واليوم، يريد المفكرون والخطباء والإعلاميون أن يحملهم الناس فوق جماجمهم التي تنزّ فاقة وجهلا لمجرد خطبة أو مقالة أو حلقة على شاشة قناة مغمورة. ويتصايح هؤلاء وهؤلاء بأن من في أسفل السفينة قد خرقوا في نصيبهم خرقاً، فهلكوا وأهلكوا من فوقهم، وما أهلك الناس إلا أمثال هؤلاء الذين يخرّون بعد أول هزيمة ويفرّون عند أول نزال.
قديماً نصح أحد أصدقاء جورج ويتفيلد صاحبه بأن يتقاعد، وأن ينام فوق سرير المرض في انتظار الراحة الكبرى بعد أن أدّى – كما يرى – واجبه في توعية الناس وإرشادهم. فما كان من ويتفيلد إلا أن شهق شهقة كادت تطير معها روحه، ثم نظر إلى السماء وقال: «يا إلهي! لقد تعبت في رسالتي، لكنني لم أتعب يوماً من رسالتي».
تظل الرسالة حبيبة إلى قلب كل رسول مهما لاقى في سبيلها من عنت، ومهما واجه لأجلها من خصومات. العيب ليس في ثقل الرسالة إذن، وإن كانت ثقيلة، لكن الظلوم الجهول الذي تكفل بحملها بعد أن تقاعست عن حملها السماوات والأرض والجبال، أثبت عبر العصور أنه الأقدر على حملها والقيام بتبعاتها. بيد أن الكثيرين من دعاة اليوم يتخاذلون أمام أبالسة القرون، ويتضعضعون أمام سلطانهم، أو أنهم اكتفوا من الحياة والأحياء، فتركوا سفن العالم لقباطنة سفهاء يهرفون بما لا يعرفون، ويوجّهون العالم إلى خرابه الأخير، وليت لهم بصيرة كبصيرة نصر الدين، وليت لهم قلوباً كقلبه.
تقول الحكمة الإنجليزية: «قد يصفك أي صديق بالحمق، لكن الصديق الحق هو الذي يصفك بالحمق، ويقف رغم ذلك إلى جوارك.»
Shaer129 me.com