المكسيكي أوكتافيو باث… رائد القصيدة الحسّية في الشعر الأميركي اللاتيني
محمد محمد الخطّابي
صادف يوم 31 آذار المنصرم 2018 الذكرى الرابعة بعد المئة لميلاد شاعر المكسيك ذائع الصيت أوكتافيو باث، المولود في العاصمة المكسيكية في التاريخ نفسه من عام 1914، والمتوفى في 19 نيسان 1998. يحتفل العالم الناطق باللغة الإسبانية بهذه المناسبة الثقافية والأدبية والشعرية، في إسبانيا، وفي بلده المكسيك وبعض بلدان أميركا اللاتينية.
وشاءت الأقدار أن يتصادف هذا الاحتفال في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في السنة نفسها بالذكرى الرابعة بعد المئة كذلك لميلاد الروائي الأرجنتيني المعروف خوليو كورتاثار، الذي ولد هو الآخر في هذا التاريخ، ومعروف في الأوساط الأدبية عند النقاد والدارسين أن عام 1914 هو عام هذين الكاتبين في أميركا اللاتينية استذكاراً واستحضاراً لإبداعاتهما الشعرية، والروائية الواسعة.
سحرية وشطحات صوفية
يؤكد النقاد أن أوكتافيو باث يعتبر من أكبر شعراء أميركا اللاتينية، ومعروف بشاعر الحب، والمرايا، والأحلام، والآهات، هذا الشاعر، الحاصل على جائرة نوبل العالمية في الآداب عام 1990، عمل من دون هوادة على مد جسور متينة بين عوالم السياسة والثقافة والشعر والنثر، ولم يترك لأي منها الغلبة على الأخرى، إنه يقول: «إن تحب معناه أن تحارب… العالم يتغير إذا تحاب اثنان… وتتجسد الرغبات… وينسجم الفكر… وتخفق الأجنحة الخمرة هي الخمرة… والخبز يغدو له طعم الخبز… والحب يعني أن تحارب… وأن تفتح جميع الأبواب».
ويرى النقاد أن قصائد باث وشطحات خياله، وبنات أفكاره إنما هي مزيج واتحاد بين الثقافة الهندية الأصلية السابقة للوجود الكولومبي، والثقافة الإسبانية المعاصرة الغربية، وتنعكس أصداء هاتين الثقافتين في مختلف أعماله، سواء الدراسية منها أو الإبداعية الشعرية على وجه الخصوص. فشعر باث مبطن بتيارات سيريالية وواقعية سحرية وشطحات صوفية مشرقية. ومثلما فعل بلديه الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس، عندما حلل شخصية مواطنيه المكسيكيين في روايته «شمس المكسيك الخامسة» فإننا نجد باث يضمن تحليله، ومعالجته لهويته كمكسيكي وأميركي لاتيني في كتابه الذي يحمل عنوان «متاهات الوحدة» 1950 ، كما أن شعره على وجه العموم مفعم بأرق معاني الحب، وأعمق تباريح الجوى والصبابة، وهو شعر ذو نزعة إنسانية، وطابع غنائي مرح، وأسلوب سلس قشيب، رشيق العبارة، دال الإشارة، ذو موسيقى متميزة. نجد في آخر قصائده الكبرى التي تحت عنوان «حديث الشجرة» 1987 تأملات عميقة حول ملهاة الحياة، ومأساة الموت، وتتأرجح أشعاره بين شفافية البوح، وعمق الطرح وهي تقوم على وحدة بنيوية متراصة ومتماسكة لا انفصام لها.
تفجير اللغة وترويضها
يؤكد النقاد أنه كان لبعض الشعراء الأوروبيين الكبار تأثير واضح وكبير على شعراء أميركا اللاتينية، أمثال رامبو، وبودلير، وملارميه وفي طليعة هؤلاء الشعراء أوكتافيو باث، وقد برز هذا التأثير في ظهور حركة شعرية أطلق عليها» القصيدة الحسية» التي ظهرت في الخمسينيات من القرن الفارط في ساو باولو في البرازيل، أسسها ثلاثة شعراء هم أوغوستو دي كاميو، وديسيو ليبغناتاري، ورولدو دي كامبوس. وقد أحدثت هذه الحركة الشعرية تأثيرات بليغة في مجموع الشعر الأميركي اللاتيني، كان من نتائجها ما أطلق عليه في ما بعد الشعر أو النثر الملغومان، ووصف أحد شعراء هذه الحركة وهو رولدو دي كامبوس «بالشاعر الذي ليس له نظير بين شعراء أميركا اللاتينية». مغامرة هؤلاء الشعرية خلقت اتجاهاً فكرياً جديداً في هذه القارة، ويعتبر النقاد المكسيكيون شعر أوكتافيو باث امتداداً وتجسيداً لهذا التيار المؤثر، بحيث أنهم لا يستغنون عن شعره لدراسة هذه الحركة، وتجلى هذا التأثيرعنده بشكل خاص في قصيدته المشهورة «الأبيض» التي يعتبرها الناقد المكسيكي إدوارد ميلان أعلى مراحل التنوير الشعري الأميركي اللاتيني الحديث، ففي هذه القصيدة تظهر تجليات باث اللغوية، إذ تصبح القصيدة عنده انعكاساً للغة ذاتها، بحيث تفوق فيها باث على الشعراء السابقين المذكورين أعلاه، وارتقى إلى مصاف مالارميه في الممازجة والمزاوجة بين اللغة والقصيدة.
باث وقصيدته «الأبيض»
كتب باث « قصيدة الأبيض» عام 1966فى الهند، وفيها ينبش عن جذور حضارة عريقة وتراثها، فالشاعر في هذه القصيدة كمبدع، وكأن لسان حاله يقول: «أتحدث فيبدع العالم» ولكن الذي يبدع في الواقع هو القصيدة. إن ترويض اللغة يعني ضرباً من الانسحاب أو الابتعاد عن العالم. حينئذ يفسح المجال للمجاز ليقوم مقامها كجسر واصلٍ، أو كنوع من التصالح، والتقارب والتداني لفهم العالم،وتفسيره. كان هايدغر ينبهنا إلى الحقائق الواقعية أو الوقائع الحقيقية في الاقتراب من المجاز الذي يغدو فخاً لقنص العالم، أو اصطياد لحظة ما منه. يحدث هذا كما يشير الناقد الفرنسي جيل دولوز في لحظة إشراق وإبهار ووضوح، ويكون التناقض الظاهري حسب هايدغر، هو أن «المقدس» أو ما لا يمكن، أو ما لا يجوز قوله هو ذلك الضوء الذي سبق الضوء الذي يريد الشاعر أن يتعرض له، وهو يكمن بالضبط في الظلام، ولذا كان على الشاعر الذي يبحث عن الظلام في عز النهار أن يعمق رؤيته في النهار، أي تحويل الضوء أكثر بريقاً من تلقاء نفسه. إن ذلك الضوء الذي يسبق الظلام يعني نوعاً من مواجهة التوتر، حيث نجد الرؤية أكثر خفوتاً، ولكنها أكثر شفافية، ففي هذه الشفافية وفي هذا التوتر تندرج قصيدة «الأبيض» لأوكتافيو باث.
تقارب الأضداد وتصالحها
بناء على ما سبق، لا يمكن النظر إلى المجاز كصورة من صور التقارب والتصالح بين الأضداد والمتناقضات. فالاستعارة والمجاز والكناية التي تظهر في القصيدة أو تجتمع في العبارة التالية: «نهر من الشموس»، تنصهر إلا أنها لا تفضي إلى التواتر والمقابلات. كما أنها لا تؤدي إلى أي طباقٍ أو مقابلةٍ أو جناس بين حقائق متغايرة، إن الاستعارة أو المجاز في قصيدة «الأبيض» هما إنعطافٌ، أو ميلٌ، أو ازورار، أو تكأةٌ للغة، أو هي قفزة في الهواء للانفلات من صمت النهاية، ومن الصمت الأصلي، فالأبيض جزء من الصمت الأصلي، إنه فجر الإبداع، وكلما ازدادت القصيدة تصاعداً وتوتراً وتناوشاً يزيد معها ضمير باث في الغليان، الصمت الأصلي الذي يعبر عنه باث بالأبيض يكمن في النهاية أو الغرض، وهو الكامن في ضمير القول الشعري، وإن استمراريته وتصاعده يتصادمان مع أمر مستحيل وهو تجسيد الكلمة والعالم معاً في آنٍ. وانطلاقاً من هذه البدهية فإن التبليغ الحقيقي لا وجود له سوى في اللغة، وتأسيسها على هذا المنظور فإن العالم كمخلوق يصبح مجلوباً، وتغدو القصيدة حينذاك بمثابة مغناطيس له.
القصيدة في هذه الحالة تغدو تقييماً للعالم كوحدة مجازية، وهي تخلق موازنة ظاهرية أو مصطنعة بين القصيدة والعالم، وهنا يحدث أن كلا من القصيدة والعالم في لحظة ما يدخلان في حوار بينهما.
الإبداع الشعري
كل قصيدة في مواجهتها للعالم هي تجربة لغوية غير يسيرة، يمكننا ضياع التاريخ أو نسيانه، ولكن ينبغي لنا عدم فقدان العقل، أو التمييز، فليس هناك فرق بين تقليد قديم، وتقليد قائم، إن الصورة التاريخية لإلياذة هوميروس تعمل على تأسيس الماضي من جديد، إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا انطلاقاً من حاضر، إن قصائد أوكتافيو باث مثل حالة العديد من القصائد المكتوبة باللغة الإسبانية اليوم،هي عودة إلى أشكال شعرية قديمة. هناك اتجاه لعودة جنونية إلى عنصر الحكي في القصيدة للتواصل مع الماضي، أي تأكيد الهوية ومدى التصاقها بالتراث كعنصر من العناصر الصالحة المتوارثة التي لا غنى عنها لأي مبدع خلاق.
من جذور أندلسية
يقول أوكتافيو باث عن ذكرياته خلال لقاءاته المبكرة مع بعض الشعراء الكبار: «لقد تأثرت كثيراً عندما التقيت بشاعر تشيلي الكبير بابلو بيرودا الذي كنت معجباً به أشد الإعجاب»، إذ أنه تعرف عليه، وعلى الشاعرالإسباني المعروف رفائيل ألبرتي اللذين وجها له الدعوة للمشاركة في أول مؤتمر مناهض للفاشية في إسبانيا عام 1927، حيث عايش في ما بعد أهوال وظروف الحرب الأهلية الإسبانية التي سجلها في قصيدته «لن يمروا» 1936 وهو تاريخ اندلاع هذه الحرب الضروس، التي لم تحط أوزارها سوى عام 1939. كان جده ذا ملامح هندية ينحدر من السكان الأصليين للمكسيك، وكانت أمه تنحدر من أصول أندلسية في جنوب إسبانيا، بدأ باث يقرض الشعر منذ سن مبكرة بفضل الأجواء الثقافية التي عاش في كنفها، وكان قبل ذلك التاريخ قد نشر كتابه «أصل الإنسان» و«تحت ظلك الواضح». وعندما عاد باث إلى بلاده شارك بحماس في الحياة السياسية والثقافية للبلاد، وأسهم بقسط وافر بمقالاته ودراساته وشعره في مختلف الجرائد اليومية الكبرى، وفي المجلات الأدبية على وجه الخصوص.
من أعمال باث الإبداعية المعروفة الأخرى: «متاهات الوحدة»، «الحاشية»، «الماضي في وضوح»، «حديث الشجرة»، «سحرالضحك»، «الشعر يتحرك»، «بين الحجرة والزهرة»، «على ساحل العالم»، «صقر أم شمس»، «حجرالشمس»، «الماء والريح»، «سالاماندرا»، «الريح الخالدة»، «الأبيض»، «أبناء الهواء»وغيرها من الكتب والدواوين الأخرى، بالإضافة إلى أعمال أخرى في مجالات الدراسات والنقد، والاجتماعيات، والفنون وهي كتابات تتسم في مجملها بالعمق والرمزية والتحليل البليغ، ومن الكتب التي وضعها باث قبيل رحيله كتاب «أخبار قصيرة حول أيام كبيرة»، وهو يحلل فيه فشل الأيديولوجيات الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية.
يقول باث عن مذهب السيريالية: «إن تأثير السريالية عليّ كان حاسماً كمذهب وليس كموقف، لقد وجدت في السيريالية فكرة التمرد، وفكرة الحب، والحرية وعلاقتهما بالإنسان، إن طبيعتها المغامرة والروحية الجماعية ومحاولاتها لقرض الشعر وجعل موضوعها الإنسان قد أخذت بمجامعي»، إنه يقول : أبحث ولا أجد شيئاً… أكتب وحيداً… ليس معي أحد… يجن الليل… يمضي الحول… وأهوى مع اللحظة… أسقط إلى القعر… دون أن يراني أحد… أدوس المرايا التي تعكس صورتي المهشمة… أطأ الأيام… أطأ اللحظات… أطأ أفكار ظلي… أطأ ظلي… بحثاً عن هنيهة. ويقول في غنائيته الشهيرة: إن شعبي عندما يحتسي القهوة… يحدثني عن خواريث وبورفيريو… وتحت اللحاف تفوح رائحة البارود… والدي عندما يحتسي كوب نبيذ… يحدثني عن ساباتا وفييا… وتحت اللحاف تفوح رائحة البارود… ترى عمن كان بإمكاني الحديث أنا؟».
كاتب مغربيّ