قراءة في النظام الرسمي العربي: من عجز في التصدّي إلى عجز في التآمر
زياد حافظ
مؤتمر القمة العربي الأخير الذي عقد في الظهران يوم الأحد في 15 نيسان/ ابريل 2018 له دلالات عدّة خاصة أن تمّ تأجيله بضعة أيام ليتوافق مع نتائج مرتقبة للعدوان السداسي على سورية. فالضربات التي شنّتها القوّات الأميركية والبريطانية والفرنسية كانت مدعومة سياسياً ومالياً من قبل الكيان الصهيوني وحكومتي الرياض وأبو ظبي. كانت توقّعات الدول الثلاث الأخيرة أن تأتي الضربات بنتائج ميدانية تغيّر مسار الأمور في الميدان السوري بشكل يسمح للمتسلّطين على جامعة الدول العربية إعلان مواقف جذرية من الصراع العربي الصهيوني وتحويل العداء الرسمي العربي تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران.
حساب الحقل لم يكن مطابقاً لحساب البيدر في ذلك العدوان، كما في مختلف المغامرات التي موّلتها بعض دول الخليج، آخرها المأساة في اليمن والتي تنذر في رأينا بنهاية حقبة تحكّمت بها الأسرة الحاكمة في الرياض. فمستقبل الجزيرة قد لا يكون بيد تلك الأسرة بل قد يأتي من اليمن.
العدوان الأخير على سورية كشف عورات النظام الرسمي العربي. فمنذ رحيل القائد خالد الذكر جمال عبد الناصر تراجعت قدرة الجامعة العربية على توحيد الكلمة العربية في القضايا الاستراتيجية، وفي مقدمتها قضية فلسطين. فهي كانت في موقع المتفرّج من الحرب الأهلية اللبنانية، ومن بعد ذلك بالاحتلال الصهيوني للبنان، كما كانت عاجزة عن منع حرب الخليج الأولى، كما كانت الغطاء لاحتلال العراق في ما بعد. والجامعة العربية قدّمت الغطاء للحلف الأطلسي لتدمير ليبيا واليمن إضافة للحرب الكونية على سورية. فالخطّ البياني في «إنجازات» الجامعة العربية بدأ بعجز في التصدّي للتحدّيات العربية الكبرى وصولاً إلى تقديم التغطية للغرب ومَن يتواطأ مع الغرب والكيان الصهيوني لتفتيت الوطن العربي.
غير أن التطوّرات الأخيرة في الميدان السوري واليمني والعراقي جعلت الجامعة العربية الممثلة للنظام العربي الرسمي عاجزة حتى عن التآمر على ما تبقّى من صمود عربي تجاه الهيمنة الأميركية والصهيونية في آن واحد. فهي التي ساهمت في تفتيت الدول العربية وحتى الموقف الإسلامي عبر معاداة كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا، بغضّ النظر عن الملاحظات التي يمكن توجيهها لسياسات تلك الدولتين في المنطقة العربية. فالحلقة الإسلامية تتكامل مع الحلقة العربية، كما أوضحه الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر، فكانت إحدى ركائز سياسة جامعة الدول العربية، وإذ تسلك هذه الجامعة طريق العداء لدولتين إسلاميتين كبيرتين من دون أن تستطيع التأثير بهما.
فمن العجز في التصدّي إلى العجز في التآمر مسار يدلّ على أن النظام العربي على وشك تغيير جذري بعد فقدان دوره الوظيفي الخادم للصهيونية والهيمنة الغربية. العجز في التآمر بات واضحاً في قمة الظهران. فمن جهة تمّ تجاهل سورية في كلمة الافتتاح وكأن الاعتداء على سورية لم يكن. في الدورات السابقة لتلك القمة كانت سورية محور كلمات أعداء سورية. في قمة الظهران لم تكن سورية موجودة في كلامهم. وبالفعل، ماذا كان بإمكان الدول الخليجية المسيطرة على مقدّرات الجامعة العربية أن تقول وهي التي حرّضت وموّلت وأعلنت مشاركتها إذا اقتضى الأمر في العدوان الأخير على سورية. فنتائج العدوان كانت هزيلة جدّاً ولها دلالات أحلاها مرّ للغاية لتلك الدول.
فإما كانت الأهداف لذلك العدوان محدودة، وخلافاً لتوقّعات تلك الدول، بأن تأتي بنتائج توقف تقدّم الجيش العربي السوري في استعادة سيطرة الدولة على الأراضي السورية، فهذه مصيبة عندهم. وإما استطاعت وسائل الدفاع الجوّي الصاروخي السورية من إحباط تحقيق تلك الأهدافز وهذا يدلّ على انكسار في التوازن العسكري في الميدان السوري لصالح الدولة في سورية، وهذه مصيبة أكبر. وتداعيات هذا الانكسار تكمن في تعزيز مكانة سورية في محور المقاومة، وبالتالي في ردع إن لم يكن منع الإعلان عمّا يُسمّى بـ «صفقة القرن» التي كانت القمة العربية تهيئ لها. بل جاء على لسان عاهل الدولة المضيفة كلامٌ مفاده التمسّك بالقدس ما ينفي مضمون «صفقة القرن». فرغم كل الترويج الإعلامي لتلك الصفقة لم تستطع تلك القمة الإعلان عنها، وهذا دليل عجز فاضح والحمد لله! .
موازين القوّة تغيّرت بشكل واضح، إن لم نقل بشكل جذري. ما تتناقله بعض وسائل التواصل عن أحداث واضطرابات في الرياض، إذا صحّت، تعزّز المناخ الجديد. المجزرة البشعة التي ارتكبها العدوان على اليمن واستشهاد رئيس المجلس السياسي الصماد من مؤشرات الانهيار السياسي والأخلاقي. الصواريخ اليمنية باتت مؤثّرة في حياة أرباب النظام في حكومة الرياض وحكومات الدول المشاركة والتي تطال قصور الحكّام.
ومن مؤشرات التغيير في ميزان القوة الرغبة الأميركية على لسان رئيسها بالخروج من المستنقع السوري. فإما تموّل بعض الدول الخليجية الوجود الأميركي كما هو عليه الآن، وإما أن تتحملّ مباشرة مسؤولية المشاركة على الأرض. وهذا ما لا تستطيع تأمينه. فالميزان اختلّ مع تراجع الأميركي من المشهد الميداني بينما يتنامى الوجود الروسي والإيراني في المنطقة. فلا يبقى لحكومة الرياض إماّ الرضوخ للموازين الجديدة أو الاستمرار بالتهوّر.
ومن جملة الأعمال المتهوّرة احتجاز رئيس وزراء لبنان المحسوب على حكومة الرياض، ما يدلّ على جهل لا مثيل له للمشهد العربي بشكل عام، والمشهد اللبناني بشكل خاص. الخط البياني للقرارات والأعمال الحمقاء تنذر باقتراب نهاية حقبة لن يتأسف عليها أحد. هذا إن لم تقم نخب بلاد الحرمين بمراجعة جذرية لسلوكها وقراراتها.
والسؤال أين مصر من كلّ ذلك؟ خطاب الرئيس السيسي في قمّة الظهران له دلالات عدة ويأتي في سياق خطابه الشهير في قمة الرياض التي جمعت قيادات عربية وإسلامية مع الرئيس الأميركي ترامب. خطاب الرئيس المصري آنذاك أدّى إلى تصدّع لم يعُد ممكنا ترميمه في جدار مجلس التعاون الخليجي. خطاب الرئيس المصري كان استعادة لخطابه السابق وتأكيده وحدة سورية ما أحبط المشروع الذي كانت حكومة الرياض تعدّ له. مصر كانت حريصة على عدم الانخراط بمغامرات غير محسوبة تتنافى مع مفهومها للأمن القومي. فالخطر على مصر عبر التاريخ يبدأ من بلاد الشام، وبالتالي الحرص على وحدة سورية من مقوّمات الأمن القومي المصري. كما أن العقيدة القتالية للجيش المصري كانت وما زالت تضع الكيان الصهيوني في مرتبة «العدو». لن تنسى مصر ما أعلنته دمشق إبان العدوان الثلاثي عام 1956 وبعد ضرب الإذاعة المصرية: «هنا القاهرة من دمشق». ولن يكون بعيداً الزمن أن نسمع «هنا دمشق من القاهرة»! فعاجلاً أم آجلاً ستكون دمشق موجودة في كل العواصم العربية.
الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها مصر تجعلها توازن بين حرصها على استعادة استقلال قرارها السياسي، وقد قطعت أشواطاً كبيرة في ذلك المجال، وبين الضغوط الاقتصادية والمالية التي تجعلها تساير دول الجزيرة العربية. ففي آخر المطاف فإن التنازلات لبعض الدول الخليجية ليست إلاّ تنازلات لأقطار عربية، ولن تستطيع تلك الأقطار العربية تجيير تلك التنازلات لصالح العدو الصهيوني. كنّا نتمنّى ألاّ تضطر مصر لتلك التنازلات التي أثارت بلبلة والتباساً حتى في مصر، غير أنه علينا أن ننظر إلى الخط البياني لسياسة مصر الذي حتى الآن يسير في الاتجاه الصحيح، على أمل أن تتوّج في مرحلة لاحقة بتعليق أو تجميد أو نقض اتفاقيات كامب دافيد التي تكبّل مصر من استرجاع دورها الريادي في الوطن العربي.
من نتائج العجز عند أرباب النظام الرسمي الخطاب «الخشبي» الجديد عندهم. فقد أعادوا اكتشاف العروبة وقيمتها بعد أن تباهوا بمحاربتها. فيتجاهرون اليوم بالحفاظ عليها. غير أن ذلك الخطاب لا يتعدّى الكلام الذي يدغدغ الوجدان العربي دون أن يؤدّي إلى مراجعة في السياسات. فالعروبة هي الوقوف مع فلسطين وتحريرها من البحر إلى النهر. العروبة هي في إيقاف العدوان الكوني على سورية وعلى اليمن وليبيا. العروبة هي إقامة دولة الوحدة واستقلال القرار السياسي والاقتصادي. العروبة هي مكافحة الفقر والجهل واللامساواة والفساد. العروبة هي تجدّد في حضارة الأمة. العروبة هي مقاومة كل ما يُعيق نهضة الأمة، من احتلال الأرض إلى احتلال العقل والإرادة. العروبة هي التوافق ووحدة مكوّنات الأمة وتيّاراتها السياسية المختلفة. فالعروبة جامعة ولا تقصي أحداً. العروبة ليست في معاداة دول الجوار كإيران وتركيا. العروبة هي اعتزاز باللغة العربية وليس تبنّي لغة وسائل التواصل التي تعمّم المعلومات كما تعمّم الجهل وقلّة المعرفة.
قضية فلسطين هي البداية والنهاية لكل ما يقدم عليه النظام الرسمي العربي المترهّل. مسيرات يوم الأرض مستمرّة ولم يعُد ممكناً تجاهلها لا في الإعلام الغربي المتواطئ مع الكيان الصهيوني ولا في الإعلام العربي المطبّع معه أيضاً. ومسيرات الأرض تتلاقى مع إنجازات الجيش العربي السوري لترسم ملامح نظام عربي جديد. فوهن الكيان الصهيوني ينجرّ على وهن النظام الرسمي العربي القائم. وفلسطين وسورية والعراق ومصر والجزائر والجزيرة العربية بقيادة اليمن ستؤسس لذلك النظام العربي الجديد الذي قد يبصر النور قريباً مع الإنجازات الميدانية التي كسرت التوازن لصالح الأمة العربية. كما أن النظام العربي الجديد سيكون عمقه الاستراتيجي القارة الأفريقية وإيران وتركيا بعد تصفية الملفّات الخلافية. وهذا النظام العربي الجديد سيكون جزءاً لا يتجزّأ من نظام دولي جديد أساسه آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية على قاعدة احترام السيادة للدول الأعضاء ومبدأ التكامل بدلاً من التنافس والصراع.
أمين عام المؤتمر القومي العربي