بناء الدولة المدنية: مشكلة لها حلّ!
أسامة العرب
لبنان اليوم كما الأمس، جميل مضياف وزاخر بالحياة، منفتح على العالم، ومضطلع بدور فاعل وبناء على المستويين الإقليمي والدولي. ولقد علّمتنا المحن التي مررنا بها، أن مصيرنا هو من صنع أيدينا، وأن إنقاذ لبنان والحفاظ على أمنه واستقراره ودوره الحضاري وازدهاره الاقتصادي، هو رهن بإيمان أبنائه بوطنهم الواحد الموحّد الذي يسمو الولاء له على كل ولاء. حتى أن بناء الدولة المدنية، التي يتلاقى فيها الجميع في أجواء المحبة والثقة المتبادلة على أسس صلبة وواضحة للعمل يداً واحدة وقلباً واحداً لما فيه خير البلد وخير أبنائه، كل أبنائه، ليس بالأمر العسير.
ففي جولة أفق عن جمهوريات الأمس واليوم، تبادرنا ظاهرة الاتحاد السوفياتي السابق، والذي شكّل اتحاداً من شعوب وقوميات مختلفة، عرقاً ولغةً وديناً وحضارة، امتدت دولته من شرق أوروبا إلى آسيا الوسطى والقصوى، في طريق سعيه لتحقيق الاستقرار والرفاهية لجميع أبنائه.
كما أنّ أغلب الجمهوريات المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي بعد تفككه نتيجة دخوله في سباق فاشل على التسلح النووي، لم تتخلّ عن ميزتها وشخصيتها، بل سارت نحو التقارب وأنشأت رابطة الكومنولث، والذي هو تجمّع بين 11 دولة تتضافر جهودها للحؤول دون انفراط وحدتها ولخلق مجال اقتصادي موحّد، يساعدها على مواجهة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي على تأمين استقرارها السياسي.
وبالتالي، فإن مفهومنا التقليدي للمواطنة في لبنان بحاجة إلى تصحيح، وبحيث تصبح إزالة الفوارق العرقية والإثنية والقومية هي الأساس لبوتقة هوية المواطن، الذي تصبح وحدة دولته التاريخة والجغرافية والإنسانية والمصيرية هي التي تؤمن للمنتسب إليها سبل العيش الكريم، وقسطاً من الكرامة والطمأنينة والحقوق في مقابل ما يترتب عليه من واجبات. ولنا على ذلك، أمثلة قاطعة، فدول أوروبا الغربية، الحاملة لواء التوحيد ولا تزال، هي دول عريقة أتيح لها أن تنعم بالعزّة والاستقلال والازدهار، وفتح الحدود والاستفادة من التكامل الاقتصادي، بعدما تجاوزت فكرة القوميات ودخلت في مرحلة جديدة من التاريخ، هي التجمّع والوحدة والتوحيد، ومحاربة الفقر والبطالة والأمية، وبحيث لا يكون هنالك مُتخَم على حساب جائع ولا مترف على حساب محروم. وحتى الولايات المتحدة التي احتاجت للتتوحّد مدّة قرن تقريباً، تمكّنت من إزالة الفوارق العرقية والإثنية بين أبنائها، على قاعدة وجوب الحفاظ على توازن اجتماعي كامل وكرامة موفورة للمنتسب إليها، لتأمين العيش الكريم لجميع مواطنيها.
ولئن كان حق الوطن على المواطن أن يستأثر بولائه التام، فالعدالة الاجتماعية حق للمواطن على وطنه. ومسار الجمهوريات على مرّ الزمان، كان مرتبطاً بالحالة الاقتصادية التي تسيطر عليها من جهة، وبإفساح المجال أمام مواطنيه للنقاش والحوار العلني والحرّ حول كل ما يتصل بالمجتمع ومصيره من جهة أخرى. فالدولة القادرة والعادلة، هي الدولة التي لا يبقى مَن يستكبر عليها، وهي الدولة التي لا يشعر فيها المواطن بالغبن والحرمان أو الإهمال في آن معاً. وهكذا تعود للدول سلطتها، وللاقتصاد نشاطه، وللمجتمع لحمته.
فهل يتجانس هذا النمط من الديمقراطية في لبنان؟ أوّل ما يتبادر إلى الذهن وجوب بذل قصارى الجهد في سبيل تعزيز مفهوم المواطنة لدى اللبناني، وتنشئة الأجيال الجديدة على القيم الوطنية والأخلاقية، في سبيل بناء لبنان الغد. كما أنه يتوجب على اللبنانيين التواقين إلى دولة القانون، أن يبذلوا قصارى جهدهم في سبيل توحيد الصف ورأب الصدع وجمع الكلمة على أساس لبنان الواحد الموحّد في جميع مؤسساته، ومناطقه، لبنان القوي بتضافر أبنائه، وتعاونهم جميعاً من أجل إعلاء شأنه ودعم جيشه وشعبه ومقاومته، ضماناً لسيادته.
أما آن لنا أن ندرك أن قضية لبنان واحدة، وأنها قضية مصير ووجود، وأن طريق الخلاص تتمثل بالتمسك بروح الإرادة الوطنية الجامعة، روح بناء الوطن الحر العزيز، روح العزم على العيش المشترك في كنف العائلة اللبنانية الواحدة، روح التطّلع إلى غد تسوده العدالة والمساواة والديمقراطية، وذلك لندفع عن وطننا كل ما يحدق به من مخاطر، ولإعادة بناء وجه لبنان الحقيقي، لبنان الجمال والمحبة والإنتاج والثقافة.
تنص المادة 95 من الدستور اللبناني على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة، وهذا النص لم يوضع موضع التنفيذ بعد 28 سنة من إقراره. كما أن الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية لم تنشأ بعد، بالرغم من دعوة دولة الرئيس نبيه بري المجلس النيابي ثلاث مرات لإقرارها، وذلك بسبب عدم وجود رغبة جادة لدى القوى السياسية لتشكيل هيئة كهذه. وهذا بحد ذاته يشكل مخالفة صارخة لأحكام الدستور. فلو تشكّلت هذه الهيئة، لوضعت خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية، ولأضحت مرجعية وطنية في معالجة الحالة الطائفية وللتحاور المنتظم في كل شأن يهدّد مفهوم المواطنة الحقيقية في هذا البلد.
والمؤسف أن آلية التدرج بإلغاء الطائفية كانت جاهزة، وكان من المفترض فتح ثغرة بنسبة عشرة في المئة في الجدار الطائفي للمجلس النيابي، وبحيث تتوسّع تدريجياً حسبما تسمح الظروف. على أن يكون انتخاب هذه النسبة على أساس لبنان دائرة واحدة، وبذلك ينتفي الاعتبار الطائفي.
طبعاً إن التطوّر قادم بدون أدنى شك، لأنه عنصر من عناصر العمل السياسي، ولأن إغفاله يفقد العملية الديمقراطية جديتها ويضفي إلى مآزق وأزمات حادة، ولبنان بطبيعة الحال غير عصي عن التغيير، ولنا في التاريخ أمثله قاطعة، فتوحيد الدولة الألمانية استغرق قروناً ابتداءً من الامبرطورية الرومانية لغاية عهد بسمارك في أواخر القرن التاسع عشر، كما أن إيطاليا لم تتمكّن من التوحّد إلا بعد جهدٍ جهيد، والولايات المتحدة لم يستقرّ بها الوضع إلا مؤخراً. فهل هنالك ما يبرّر إذن، عدم قيام الدولة المدنية في لبنان على المدى المنظور!