الانتخابات اللبنانية الرؤية الأخلاقية والوطنية للمتنافسين

عباس علي مراد

من حق المتنافسين للوصول إلى الندوة البرلمانية استعمال كلّ قواهم وإمكاناتهم من أجل ذلك الهدف، لكن قد يفوت البعض أنّ هناك قواعد تضبط تصرفات المرشحين، ونحن هنا لا نتحدّث عن القانون والنصوص القانونية، والتي تضربها معظم القوى السياسية عُرض الحائط، خصوصاً لجهة الإنفاق والدعاية الانتخابية وما يُحكى عن شراء الأصوات، لكن التركيز هنا يتمحور حول الرؤية الأخلاقية لأسلوب التنافس وتأثيراته السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الأمنية والثقافية، والأخيرة يجب أن تكون الأساس الذي يُبنى عليه من أجل التغيير والازدهار المنشودين لوضع حدّ للتدهور الاقتصادي الاجتماعي وتراجع الشعور الوطني، في الوقت الذي تطغى فيه الجوانب الطائفية، المذهبية والفئوية من خلال استمرار العمل بالأعراف والتقاليد والممارسة، حيث أصبح الهمّ الأساسي الوصول إلى البرلمان وبأيّ كلفة حيث الحديث وعلى رؤوس الأشهاد عن شراء الأصوات أو إحضار المغتربين للتصويت مع تغطية كلفة السفر والإقامة.

إنّ الجهل والفقر والكراهية والتعصّب بالإضافة إلى الاستغلال والظلم بلغ درجة مخيفة، حيث أصبح تمجيد الوجاهات والمال يتقدّم على كلّ شيء عند معظم الناس.

اللافت للنظر أنّ المُستغِلّين يسعَون إلى تثبيت قوّتهم السياسية ومكتسباتهم على حساب المُستغَلّين وعلى حساب بناء الدولة على أُسس متينة، فمن أين يمكن أن يأتي التغيير المنشود؟!

الشعوب المتحضّرة تسعى إلى تحقيق رغباتها وأهدافها وتقوية قيمها وترسيخ معتقداتها وتأمين حاجاتها عن طريق تنظيم مؤسساتها واستثمار خيراتها وقواها البشرية ووضع القوانين التي تحكم هذا الانتظام بعيداً عن الأعراف، لأنّ القانون هو الأساس الذي تقوم عليه الدول.

إنّ النموذج الأخلاقي المعمول به لدى معظم القوى بعيد كلّ البعد عن الإنسانوية والعقلانية والحيوية المنشودة، رغم أنّ الخطاب يحاول لا بل يجاهر بقيم ثقافية تسقط أمام أول اختبار وتحدّّ، فكيف ننتظر مِن مَنْ لا يملك حسّاً أخلاقياً أن ينبثق منه حكم أخلاقي، بمعنى آخر «إنّ فاقد الشيء لا يُعطيه».

إنّ غياب النموذج الأخلاقي وتقدّم مفهوم المنفعة الذاتية للأفراد والجماعات المتنافسة للوصول إلى البرلمان لا يمكن أن يوصل الى حياة آمنة للمجتمع والأفراد، ولا يؤسّس لمستقبل أفضل.

فمفهموم السلطة التشريعية هو التعبير عن إرادة الشعب الذي يفوّض نوابه لتحسين الشروط المعيشية، الاقتصادية، السياسية، القانونية والثقافية للمواطنين وتحقيق تلك الإرادة الشعبية، فهل التجارب السابقة وما يحصُل على أرض الواقع يبشّر بالخير؟!

قد يقول قائل لماذا استباق الأمور، لكن المشكلة تكمن في أنّ المؤسّسات تفتقد الإرادة السياسية والرؤية المبدعة والمستقبلية لا بل إنّ طموحات الأكثرية سلطوية ومن يراقب التحالفات الانتخابية يدرك فوراً من أين وإلى أين نحن ذاهبون، وترقبوا الاشتباك المرتقب حول تشكيل الحكومة بعد انتهاء الانتخابات، كي ندحض الشك باليقين.

التغيير إنجاز إنساني راقٍ، ولكن للتغيير شروطه، علماً أنّ التغيير لا يحدث «بكبسة زر» أو بصورة تلقائية، لا بل يجب أن يقوم على أُسس الحرية والعدالة والأخلاق والديمقراطية التي يُبنى عليها السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي والفني وكلّ ذلك ينبثق عن ثقافة المجتمع، فكيف بمجتمع يرزح تحت الطغيان السياسي والديني والمذهبي والعصبي والسلطوي، وهنا أحبّ أن استشهد بالمقولة الشهيرة للرئيس سليم الحص أطال الله بعمره: «في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية»، السياسة في لبنان لعبة بلا قواعد…

إذاً، كيف تكون حرية إنْ لم نستطع أن نخاطب العقل والقلب الوطني والإنساني، ونستقلّ في مخاطبة الغرائز المميتة!

تتردّد على ألسنة اللبنانيين عبارة «هذا لبنان». وحتى الآن لا أملك تفسيراً لهذه العبارة، ولا أعتقد أنّ معظم مَن يقول بها يملك تفسيراً لها إلا استعمالها السياسي للحفاظ على مكتسبات أو سلطة، لكن من الواضح أنّ هذه المقولة أصبحت مهرباً مقبولاً من الجميع. فلماذا لا يتمّ تطوير معايير أخرى للبنان هذا قائمة على التجربة الوطنية والإنسانية بعيداً عن الخنوع والنفاق وضيق الأفق.

هناك الكثير من التحديات التي نواجهها في حياتنا ووجودنا، ولكن هناك الكثير من القيم التي تساعدنا على مواجهة الصعاب. ومن هذه القيم ما هو ثابت وما هو متحوّل. فلماذا لا نشتغل على تطوير المتحوّل وتحصين الثابت في عالم تتسارع فيه الأحداث والتحوّلات، لأنّ محيطنا والمنطقة العربية حبلى أكثر من غيرها بالمشاريع والمؤامرات التي تُحاك حولها ولها، ونحن في لبنان نعرف أنّ «إسرائيل» تتربّص بنا وبثروتنا النفطية والمائية وتدعمها في طموحاتها هذه الولايات المتحدة الأميركية.

إنّ معرفة الذات والإمكانيات والحاجيات كوطن ومواطنين واحدة من الأسس التي تساعدنا على توضيح كيف يجب أن نحقق تطلعاتنا وأنفسنا وننمو مع بعضنا البعض بعيداً عن طبقة سياسية متسلّطة همّها الاحتفاظ بسلطتها وإحكام قبضتها على مقدّرات البلاد والعباد.

نعم، الدولة هي الإطار الثقافي الاجتماعي – السياسي الذي ينمو فيه الفرد والجماعة ونحقّق أنفسنا بعيداً عن النفاق المتبادل والعمل على تعزيز المعرفة والثقافة حتى يكون الاختلاف في السياسة والرأي أحد عناوين القوة وليس نقطة ضعف ينفذ منها أعداؤنا، خصوصاً إذا كان هذا الاختلاف يرتكز على المبادئ الوطنية والأخلاقية والإنسانية.

لكن مشكلتنا مع الدولة هي أنّ كلّ فريق لديه مفهومه الخاص لهذه الدولة، وهذا أيضاً أحد التحديات التي تستوجب الحلّ لتأمين دولة حاضنة للجميع كمواطنين ولا تحكمها هواجس الديمغرافيا والأكثرية والأقلية وحقوق الطوائف والمذاهب على حساب المصلحة الوطنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى