تظاهرة «24 ساعة شعراً» في سوسة ـ تونس في دورتها الخامسة.. رؤى وأبعاد وخلاصات
أمين الديب
كان لسعادة السفير التونسي في لبنان كريم بودالي، الذي يولي الثقافة عموماً، والشعر خصوصاً، كامل اهتمامه، لقناعاته بأنّ الشعر قد يُصلح ما أفسده الدهر العربي، ولاهتمامه بأن ينشأ بين لبنان وتونس تبادل علاقات شعرية تثقافية فنّية، سهّل لنا وبارك هذه الخطوة لما فيها من قيم فكرية وحضارية متفاعلة بين بلدينا.
ومن خلال تكرار زياراتي إلى تونس للمشاركة بمهرجانات شعرية وثقافية ونقدية، وجدت أنّ المشرق العربي بتاريخه وحضارته وقيمه، قد يشكّل مع المغرب العربي بما يملكه أيضاً من حضارة وثقافة رائدتين، رافعة فكرية قوامها الشعر والأدب الوجيز والمسرح والسينما والنقد العلميّ الموضوعي. والتي قد تُشكّل في المستقبل منطلقات فكرية لحركة أدبية جامعة تؤسّس لحالة تجاوزية تُعيد البريق، والأمل بأننا ما زلنا على مسار التقدّم الإنساني وأن حضارتنا هي كطائر الفينيق ـ الأسطوررة التي تنبعث من بين الرماد كلما بدا إلحاح الضرورة حاجة وجودية.
أما تظاهرة «24 ساعة شعراً» في مدينة سوسة التونسية، التي يطلقون عليها لقب «جوهرة المتوسّط» وهي تستحقّه بامتياز، فقد كانت تظاهرة حقيقية استمرت على مدى أربعٍ وعشرين ساعة من دون توقّف، أي من دون نوم، لا من المنظّمين ولا من المشاركين ولا من الجمهور، وهذه مسألة يجب التوقّف عندها للشغف والحماسة والإصرار على الانتصار للشعر بعدم النوم كموقف حاسم التزم به الجميع.
وفي هزيع التظاهرة الأخير كان الإدهاش متمثلّاً بأصبوحة شعرية على شاطئ بحر سوسة في الهواء الطلق، ثم انتقلنا إلى المكتبة الجهوية حيث أذهلنا أطفال بعمر الورد بإلقاء الشعر، لغة صافية وحضور متألق تقشعر له الأبدان. بعدئذٍ انتقلنا إلى المدينة القديمة حيث تكاثف الغناء الفولكلوري الجميل والمبدع، وكان الاختتام في معرض الكتاب.
هذا وقد لعبت مديرة التظاهرة الأديبة والشاعرة راضية الشهايبي، التي سمّيتها «الدكتاتور الجميل»، دور قارع الطبول في الحرب كلّما سهت عين شاعر أو شابه بعض الوهن، والتي كانت تحت إشراف المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسوسة، وجمعية أحباء المكتبة والكتاب في سوسة، حيث برزت مديرة هذه التظاهرة الأديبة والشاعرة التونسية راضية الشهايبي بكامل حيويتها الفكرية والثقافية والتنظيمية وقدرتها على جمع هذا الحشد الشعري الأدبي الفكري الفنّي النقديّ من لبنان ومصر والجزائر والمغرب وليبيا، إضافة إلى حشد من الشاعرات والشعراء والنقّاد التونسيين، ليتشكّل بهذا الحضور المتنوّع بغناه وثقافته وحضاراته، موقفاً متقدّماً في تحريك واستنهاض روحية الانتصار للشعر والأدب في زمن طغت فيه البلادة والأفكار الهدّامة التي كادت أن تزعزع روح الأمة وحضارتها كان الاستماع إلى الشاعرات والشعراء والنقّاد وبعض المشاركات لفنانين مبدعين، تجربة غنّية بفائض الإبداع والتعرّف عن قرب إلى هموم الشعراء وهواجسهم، والمسائل والقضايا التي تتابعت وتنوّعت في قصائدهم بين الوطنيّ والرومنسيّ والفلسفيّ والتجديديّ والومضيّ والتقليديّ والسرديّ والشعبيّ والفولكوريّ سلام والمحكيّ.
مما لا شك فيه، أن هذه التظاهرة، الناجمة عن حيوية شعرية ثقافية تتميّز بها تونس، شكّلت حافزاً رؤيوياً دافعاً لتفعيل التواصل بين المشرق والمغرب العربيين، والتعرّف إلى الأبعاد الحضارية والفكرية والثقافية لتفعيل الدورة الحيوية الناجمة عن قواسم وهموم مشتركة وتاريخية بين الشعبين والتي يمكن أن تتلمّسها في أيّ حوار مع أيّ شاعر أو ناقد أو أديب أو فنّان.
في الخلاصات، إن هذا التواصل الذي بدأ منذ ثلاث سنوات مع الأديبة والشاعرة راضية الشهايبي عندما جمعتنا الشاعرة سناء البنا معها ومع الكاتبة الأديبة فوزية العلوي في معرض الكتاب الدولي في بيروت، وبمباركة السفير التونسي في لبنان كريم بودالي ودعمه، قد شكّلت منعطفاً حقيقياً في مسار التواصل الذي عملنا عليه جميعاً كمشروع تكاملي بين ثقافتين وحضارتين ينفضان عنهما غبار التراكم لينبعثا بقيمهما الفكرية الموغلة في الحضارة والتاريخ كرافعة استباقية لموت اعتقدة البعض محققاً بينما هو حياة وانبعاث.
نحن ننظر إلى هذه الحالة الناشئة بأبعادها ومضامينها وحيويتها واستمراريتها، على أنها رؤيا مستقبلية تستنطق حالة تجاوزية تؤسّس لثورة في الشعر والقصّة والأدب بشكل عام يترك بصمته التجديدية حتى أنه يمكن أن تُقتدى على المستوى العالمي.