حين تلتقي «بنات الأنهار»… يصير الحضور دهشة!

طلال مرتضى

تخفّف في مشيتك، كي لا تُحدث جلبة على مساحة البياض الممتدّة ما بين أوردة القلب والأصابع التي ما فتئت جاهدة لصنع فتنة الضوء.

ما بين الشهقة الأولى والتالية ثمّة مفاز لحياة لا تنتهي، تجترعها أرواح تماهت كما العصف الناعس في الحواس لتعلن قيامة عنقاء حضورها دونما ارتباك.

في الحكاية بعض من دموع مجبولة بملح النجاحات التي تكتظ بها المسام الغاوية برهج العبور إلى ضفاف المعنى والذي تحوّل في ما بعد إلى رمز وجملة دوالّ.

لزاماً كان عليَّ التخفّف في مشيتي وأنا أعبر خيوط القصّة.

العين وحدها أوّل من تسجل لحظة الوصول الأولى، قبل أن ترسل صدى المرايا إلى تلافيف الرأس لتحلل سكر المعاني وتذويبه في بوتقة الحواس.

رهبة سكون المكان زادت من توهّل الروح، كلّ شيء في مكانه يشي بالوداعة. لا أنفي أنّ الدخول إلى مثل هذه الأماكن كثيراً ما كان يربك حواسي حدّ استشعار بتثاقل خطواتي على بلاط الامتلاء.

السكون في هذه البلاد ليس بدعة، بل هو جزء من تكوينها، ثيمة من ثيماتها لا تنفكّ من تبيان حضورها هي الأخرى كمتمّم للتفاصيل.

أن تقف أمام لوحة زيتية وتغرق عميقاً في خيوط وتراكيبها القماشية أمراً عادياً، قد يحصل من باب مصادفة على غير موعد، قد ترصد روحك أو تصاوير ذاكرتك للحظة ما في مرآة ألوانها وهذا أيضاً ليس ببعيد ولا عجيب.

كان الوقوف عند مطالع اللوحة الأولى يدلي وبكل تخفف بأن المشهدية لا تنتهي هنا، ثمة حلقات متوالية تأخذك على غير هدي نحو اللوحة الثانية والثالثة وإلى ما لا نهاية، فقط لشيء واحد هو اكتمال دورة الحياة أو القمر للوصول إلى هالة بدر.

لم يكن شنق اللوحات على فسحة الجدار الصادح البياض بهذا الترتيب عبثياً، تدرك بسليقة روحك بأن الجدار ذاته قد جيّر بالفعل ليكون جزءاً مهماً ومكمّلاً فهو بدوره يعطي العين الرائية مساحة أوسع للتخييل، من دون أن يكسر مدّ النظر الذي ينتقل بالتدريج من فضاء لوحة عابرة إلى لوحة تالية.

ثمة أصوات، هدل ناي، صدح مزامير تتلمس بالعين المجردة تكاد تصمّ بضجيجها مجاري حواسك من دون موانع، تلقي القبض عليها من تفاعل الألوان داخل كل لوحة.

لن تعيا بأن تقنع روحك أن هذا الذي أنت به لم يكن إلا تصويراً مصغراً لحياة، والحياة هنا أعني بها مجموعة من العواطف والأنفاس استطاعت أصابع حانية تحمل في مسامها صبغة المطر الذي أينما دُكت طلوله تترك ربيعاً.

في المطالع أكتب «أنثى المزامير»…

ما تركته فوق هذه العتبة «أنثى المزامير» هو «أنا»، والأنا هنا الإيغال إلى جوّانية روحي التي تسري في كلّ دروب الحلم المؤدّية إلى محيطات الدهشة. فالسؤال العالق على شفة مفاتيح «كيبورد» الحروف يقول: أيّ دهشة تلك تلقي القبض عليها بكامل وعيك دونما عبور قسريّ من سهل الأنثى العالي، الممتلئ بدوالّ عناقيد المعنى والممتنع حدّ الظمأ لخلق تكوين نورانيّ لا تتلمّسه سوى الأرواح الرهيفة؟

فكان الوقوع من علّ في مغبّات «ابنة الأنهار» التي ولدت من لدنها «أنثى المزامير» كي تبدّد غبش التصاوير المنحوتة مثل رصد في تفاصيل الذاكرة، منزاحة لتفاصيل جهدت الحياة بفرحها وحزنها، بخيرها وشرّها، قريبها وماضيها، سلمها وحربها إلى تعميتها لتخفي عن واقعها الصريح كل ما يشي بغيابها، ومنحازة لـ«أناها». وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ «أناها» هذه أتت هذه المرّة شاملة، تحت مقال: أناي.. هي من حواء الأولى ممتدة إلى ما لا نهاية من صنع الحياة.

مجموعة شعرية ارتكبت معصية كتابتها عن سابع قصد «ابنة الأنهار» إشراقة مصطفى حامد السودانية، وما هو مؤطّر بين مزدوجين لم يكن سوى دالّ شرطيّ لروحها التي سفحت بين «نيل» متفلّت من قيود آسره، أينما سرى يصنع بدوره حياة، و«دانوب» أهوج تمّ ترويضه بعناد حتى صار طوع بنان مروّضيه، لهذا كانت «ابنة الأنهار»، لم تكن تلك القصائد لتذهب بعيداً في مطر مداركها، لأنها سجنت هي الأخرى طي الأدراج قبل أن تتخم بها، وقتها لم تعد سراً.. السرّ اللذيذ الذي هو بالأساس ليس ملك شاعره إنما ملك قارئه.. وهنا اكتمل النصاب بعدما صار الحبر بين ضفّتي ورق وعلى لسانين «العربية والألمانية»:

ورطة الروح الأزلية

تميمة للذات..

رنين ظهيرة الشجن الرهاب :

حبيبي…

أيها اللصّ البديع..

يا سارقني من غار الربكة

يا مفجّراً نبع كثبان الأماني السراب..

يا ناهضاً بي،

بعصارة الأشجار النائحات

كأجمل ما يكون في الصحراء: الغموض..

كأعذب ما تكون وحشة البروق:

شبحٌ لظلال غيبوبتي،

نهرٌ يصدح بالجنون،

ساحلٌ يبقى وحيداً..

يهدر عميقاً،

ثم يغلق النوافذ والأبواب

ويعودني صهوةً للوعود الأخيرة..

لا يطفئ شهوة الزنجبيل على رغوة تراتيل قهوتي..

يشعلها بالسؤال

بالشجن

وترانيم العويل..

يفتح عرين الشوق بركاناً

فتدلف مجامر الروح سلاماً سلاما..

غريبٌ وقريبٌ

كانشطار الرغبة بين الحقيقة والذهول..

دثّرني بعزلتي،

بأنوثة الاستواء ومرارة الغياب..

حين ندهتنا الغابة الجريحة حدائق للصمت،

تسلّل حفيفاً ساعة ذروة الرعود في معزوفتها الأخيرة..

سارقني ومفجّر سطوة الجسد/ الكلام:

أنت حبيبي…

زوّجتك نفسي،

وشاهدنا حرّاء القلب وشجونه..

فما رأيتني والعتمة خيرٌ من يخبّئ صليل الحكايات وكبوة الخيول،

حرامٌ عنبٌ الأنبياء..

الأولى لمن أوحاني بمدائن الرغبة في الحياة،

فتشبّثت بي..

والثانية على

غمامٍ لا يكفّ عن الاشتعال

أنثاك وآخر فوضى الأعاصير

تبزر رمال الأمنيات في ما اقتسمنا من رفقة

وشجن الأعياد..

وما عدت يا حبيبي متسكّعاً في عبابي

شوقاً للبنات النابهات

والأولاد الورود،

وصدى طقطقات الأغنيات على أصابعك:

تنهيدات السماء في جسدي،

ورفرفة القلب في المطر

دوزنة أحاديث الليل

سطوة روحك

وانكسار الحراز …

مطرٌ… مطر.

إنه الجنون واحتشاد البحر في دمي

مغازلة آخر النجمات.

نبّهتني لنداء الصحو لنجلس فوق النهر،

نداعب مراكب من ورقٍ وتراب،

تشبه أحلامنا حين كنّا زغب حمام،

تقوقي وتشعل وجهك النبي بالسؤال..

لمدائن عينيك سلامٌ،

لأحلامنا الورقية قيام،

ولحبيبي ورطة الروح الأزلية.

عطر اللوحة

لغياب اللون عطر ٌفادحٌ

لا يكفّ عن العطس حين يحدر في الظٌلمة الحنين

يضطرب ليلي…

ليلي سيجارةٌ شقيةٌ بين أصابع حبيبي

يحتّ رمادها لريح شوقٍ قادمٍ

ويبحث في فضاء روحي عن الحبّ

الليل يقهقه مجنوناً…

الحبّ دميرة ألوان الغياب

وأسطورةٌ تكهربني بسيرة الواقع وقوافي الأنهار

الذاكرة علبة ألوانٍ

تستوحش بدفء الحكمة

وفراغات اللون الذي لا ينام إلا على ضجيج نملي

تلذعني سطوة صمتي..

صمتٌ يتّسع لفراغ اللوحة الأخيرة

وأسماك روح جبريلي تلمع أشواكها

تضيء الليل، البحر وتعمدني أجمل الغريقات

لوّن الأسطورة حبيبي

وعروس البحر وسيدة العشب أنا

طوّق إصبعي ذات لقاءٍ يتيمٍ بخاتم المنى

خاتمٌ يتّسع للفضاء

يسع أنامل كلّ النساء

تستريح مفاصلهن في مداه

تطحن دريشة الحزن وترقص حمائمهن كتابةً طليقةً

هو لون الأسطورة

عمّدني عروساً للبحر

وسيدةً للعشب ومضى..

تناوشه سيرة الحنين وتلذعني قهوة الغياب.

لعلّكم عبرتم كلمة «متوالية» في سياق حديثي عن لوحات تشكيلة، من دون اكتراث، فالمتوالية عند هذا السطر كلّ، والكلّ يعني الوصول نحو سدرة الدهشة التي تحدّثت عنها في المطالع من المقال.

حينما قرأت التشكيلية النمسوية ريناتي مينارز، تلك النصوص الشعرية والتي لم يكن يعنيها أمر تحت أيّ فضاء ولدت تلك النصوص أو تحت سلطة أيّ اعتبارات لا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد، تلمّست استفزازاً لم تألفه من قبل..

كانت تهذي بينها وبينها، هذه أناي.. أناي التائهة.. وتلك الحواس التي تضج بها القصائد هي حواسي.. بقي هذا الرجع يتردّد صداه في روحه مثل بركان خامل يغلي على نار هادئة إلى أن آنت ساعة انفجاره اللذيذة، ليصير للحكاية طعم ولون..

فكانت تلك التصاوير التي عبرنا توّاً فتنة حواسها من دون أن نعي أنها الصورة الحقيقية لفضائين متضادين بكثير من الدوالّ والمعاني والترميزات والإشارات، لكنهما التقيا في صيرورة الإنسانية السامية كمتمّمين لمسيرة لا تتوقف.

تعريف

إشراقة مصطفى حامد، كاتبة وإعلامية سودانية وأكاديمية غير متفرّغة في جامعة فيينا.

ريناتي مينارز رسّامة تشكيلية نمسوية، لها حضور فنّي ومعارِض عدّة في أوروبا.

كاتب وناقد سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى