مطـــــر
بلال رفعت شرارة
أمطرت فغسلت دماء الضحايا الذين استشهدناهم وغسلت الدماء عن الجرحى الذين أوقعناهم وسقطوا في تغييرات غضبنا… غسلت آثار شعاراتنا الاستفزازية وصراخنا الوقح في الأحياء وعلى الطرقات، وهدأت الرؤوس الحامية الفرحة والمتحمّسة، التي لم تتّسع الدنيا لأصوات زعيق زمامير سياراتهم أو دراجاتهم اشمبان موتسيكله وبعضنا الحزين لم يحصل ليس على كلّ الحاصل الانتخابي الذي توقعه، بل كذلك لم يحصل على الأصوات التفضيلية المطلوبة، وبعضنا كان لا ينغِّص عيشه أنه ربح الانتخابات أو خسرها أو كذلك مَن ربحها أو خسرها.
في لبنان على مساحة هذا البلد الصغير 10452 كلم2 القريب من بعضه البعض الى درجة أننا نكاد أن نرى فيه بعضنا البعض من أوّله الى آخره، في لبنان هذا نستطيع أن نفرح مع بعضنا وكذلك أن نحزن مع بعضنا البعض، وننتبه إلى أننا كلنا رابحون وخاسرون في آنٍ معاً.
في لبنان، أمطرت هذا الأسبوع. أطفأت ما فينا من غضب وغسلت قلوبنا… وجه أفراحنا ثم انتهى كلّ شيء. غداً ربيع آخر، فصل جديد. ليس من الضروري فيه أن تتعطّل المدارس ولا الحياة. ولا أن يصدر تعميم بمنع سير الدراجات الموتوسيكلات إذ كيف سيذهب الفقراء الى أعمالهم، بعض الطلاب إلى جامعاتهم، بعض المحاربين الى حروبهم الصغيرة والكبيرة.
بعد ذلك، من الآن فصاعداً سوف تسطع الشمس، لا ينافسها ولا أيّ مرشح على أدوارها. سنبتلع ألسنتنا من شدة القيظ، نتنافس على الأمكنة المُكيّفة، نتسابق الى الجبال وسوف لا نعود ننتبه الى أننا انقسمنا حول المرشحين إلى المناصفة على المُرّة والحُلوة ، سوف نفتقد في ضيَعنا أريافنا البعيدة العجقة التي كان يحدثها المرشحون وماكيناتهم الانتخابية. اعتباراً من الآن سوف ننساهم تماماً… المطر أسقط بعض صورهم، غسل قلوبنا وبعض جدراننا من حضور ابتساماتهم العريضة الضاغطة، سوف لا نعود نجدهم إلا عندما يأتون لتقديم واجب العزاء لنا إذا ما توفى الله قريباً لنا واستردّ أمانته.
المطر دخل مسامات أرضنا دون استئذان. لم يكن يرتدي ألوان لوائحنا، أفكارنا، مشاريعنا الايديولوجية، السياسية والتنظيمية. لم يقدّم لنا برنامجه السياسي أو برنامج مشروعاته التي ستؤدّي الى ازدهار حياتنا. وهو المطر لم يهتمّ للحراس وللسيدات والسادة الذين كانوا لا يزالون يحرسون مداخل مراكز الاقتراع وقد نسيتهم الدولة أو الذين كانوا يروّجون للمرشحين وقد نسيهم هؤلاء، إذ إننا الناخب والمرشح على حدّ سواء لم يعد يلزمه المراقب أو الملاحظ أو المراقبة أو الملاحظة.
الآن يأتي المطر، يزيل بصمات كلّ شيء يتعلق بالانتخابات، يزيل الصور واليافطات والشعارات والأحقاد، والوعود التي تراكمت وأقامت الجدران بيننا، ولا يبقى سوى حفرٍ مليئة بمياه المطر التي تجمّعت في الشوارع وأيضاً المجاري والمصافي المقفلة. وغداً فإنّ شبكات مياه الشفة الضجرة ستعود تشتاق الى خرير المياه في قساطل مياه المشروع التي في سيرتها، كما في أوّل كلّ صيف تنقطع وتجفّ ولا تعود تصل الى بيوتنا ولا الى أشجارنا ولا الى زقزقات أطيارنا، وسيقف كلّ الكلام في أسقف حلوقنا بانتظار مطر مقبل.