شجاعة الحذف
شجاعة الحذف
لا شيء يجعلنا كباراً كالتجربة، ولا شيء يجعلنا أكثر صمتاً كخيبة الأمل. تجاربنا مفّعمة بالمعاناة في مسيرة عبورنا نهر الحياة «الزمان» الذي نقطعه ونحن نحمل أثقال وجودنا على أكتافنا إلى أن نصل جزيرة الأمل أو لنقل الحياة المرجوّة بكل معاني الوجود. معاني تفجّر لدينا الإحساس بالتفاؤل رغم التسرّب الدائم للمعاناة الني نحياها.
خلال هذه الرحلة ينبغي علينا وأحياناً يفرض علينا ما سنسمّيه شجاعة الحذف: حذف كتابات، حذف إبداعات، حذف أشخاص، حذف أرقام، حذف أماكن، حذف ما لا طاقة لنا بعد على تحملّه. حتّى نستطيع بما نملك من مساحة الصبر القليلة المتبقية والتي تنتهي بحرف على حافة الجرف أن نستمر. منهم من مارسوا عليهم سياسة الحذف وليس عن طيب خاطر وبالأخص من يكتبوا في قضايا تلامس العقل الجمعي . فكثيرون من المثقفين وحملة الشهادات العليا رسموا لهم حدوداً لقلمهم ولا يستطيعون تجاوزها. السبب نفسه الذي دفع ـ محمد باقر الصدر ـ أن يعدِل عن تأليف كتاب «مجتمعنا» بعد أن أعلن عنه معتذراً بقوله: «إنّ مجتمعنا لا يسمح بكتابة مجتمعنا». فالعقل الجمعي الذي ألجم ـ الطبري ـ عن إيراد بضعة أخبار، هو ذاته ألجم ـ محمد باقر الصدر ـ وصرفه عن تأليف كتاب كان يشغل اهتمامه كثيراً. يبدو أنهم يريدونها ذاكرة مثقوبة لا تحتفظ إلّا بما يلائم مسيرتهم الجنائزية! أمّا منظومة قيمنا فمغطاة على غرار ـ دون كيشوت ـ محمولة على ظهر جواد هزيل لكنّه مهجّن عربياً كما هجّنا سندبادنا. فهو منذ ان اكتشف ذاته يسير في تلك الصحراء الميّتة الجافة التي لا يحيا فيها إلّا العصبية القبلية والتقاليد البالية وقساوة القلب. فمنذ عصر صحرائنا الأول تمّ وئد الكثير من الأسماء والأعمال. بهذا المعنى كان تاريخنا أشبه بمسيرة جنائزية تحجب عن عيوننا رؤية المستقبل، وهناك جدران كبيرة تحول بيننا وبين النهضة، وعملاق سندبادنا قابع في الصحراء. أربكتنا كثرة الأسئلة وعدم وجود الأجوبة وعلى الطاولة العريضة والمستيرة تمّ تشريح الكثير من الأسماء. ولا نريد أن نعرف المزيد فمن رحمة الله أن غيّب عنّا القدر ـ أنيتا كريزان ـ قال: «اختر معاركك بحكمة».
نعم ليس كل شيء يستحق أن نقاتل من أجله. لكن ماذا عن معركة المبدعين وأصحاب الأقلام النيّرة. هل ستبقى تمارس عليهم سياسة الحذف. حذف أفكار لطالما حرموا من النوم كي يبلوروها بالطريقة الصحيحة ويقدّمونها لخدمة البشرية؟
يبدو أن العطاء بأسراف يقابله خذلان وجحود في زمن نحن بأمسّ الحاجة لقلمهم وأفكارهم. فزهور الغد هي بذور اليوم. لذا دعوهم ينظرون بعيونهم لا بعدساتكم وحرّروهم من سياسة كم الأفواه. لا ينبغي أن نحكم إغلاق نوافذهم كي تصلنا أفكارهم.
صباح برجس العلي