قلمها ارستقراطيّ… وروحية قصيدتها متوازنة الشاعرة نادين طربيه: الشعر حالة تزورني إنّما لا ترافقني دائماً

رنا صادق

كما كانت لديّ الحماسة في التعرّف إلى الشاعرة نادين طربيه عام 2015، ها أنا اليوم أخطّ مجدّداً عن مشوارها وأسترق حديثاً منها، لأعلم ما إذا كان شعرها بخير، وما زالت أبحاثها في أوجها، وما زالت تلمع كبريق السماء في الشتاء. التقيتها منذ ثلاث سنوات، كان لي معها حديث مطوّل عن مسيرتها الشعريّة ودراستها وأبحاثها في التناصّ والأدب المقارن، واليوم ألتقيها لأتابع عن كثب ما أضافته إليها تجاربها في السنوات الثلاث الماضية.

أضحت ـ بحسب رأيها ـ أكثر تفهّماً وصلابةً وتشعّباً ونضجاً، فقد اكتسبت في هذه السنوات الثلاث وعياً وقدرةً على استيعاب المسألة الأساسية المتزعّمة في ضرورة الألم والتجربة، فهي تعتبر أن الإنسان لا يستحقّ النضج إن لم يعش الألم. النضج مرتبط بمفهوم الألم، ومن لا يخضع لتجارب في حياته يبقى خارج عملية الصهر، فالذات تحتاج إلى نار الألم حتى تتبلور.

تغيّرت كثيراً لكنّها لم تتغير في الوقت عينه. تغيّرت في ازدياد نضجها لكنها لم تفقد روح الطفولة، والانبهار والدهشة الموجودين فيها. قراءاتها مرتبطة بالإنسان، الفلسفة وعلم النفس. كما لم يعدّ للمظاهر تأثير عميق فيها، أصبحت ترى بشكل أخطر من ذي قبل، لديها قراءة للواقع تختلف كلّياً عن سنواتها السابقة، هو النضج بعينه ويرتبط بتفاعل الذات مع الوجود.

متعلقة جداً بفرادة المرأة واحترام الرجل لها، ومتعلّقة بصورة الرجل الموجودة في اللاوعي لديها والتي من الصعب التخلّي عنها، والواقع في أنّ بعض الأحيان تصفعنا الحياة بصور رجال لا تشبه الصورة الموجودة لدينا. ونادين في قصائدها تحكي مواضيع الحبّ والعاطفة. وديوانها «همسات» مليء بالحبّ، وشعريّ عموماً، أمّا تمرّدها فثوريّ.

في التقرير التالي، حوار ممتع مع الشاعرة الشابّة نادين طربيه.

الأرستقراطي

كتابها الأول «همسات» صدر عام 2007 ، ووُصف حينذاك بالكتاب الأرستقراطيّ لنضج القلم الذي كتبت به نسبةً إلى أنها كانت صغيرة. هو كتابٌ شيّق وكثيف بالصور. إذ تقول عنه: «همسات»، أرّخت ثلثي القصائد، فالتاريخ بالنسبة إليّ كان مهمّاً جداً. أكتب في بعض الأحيان عن الحالة قبل أن أعيشها، ثم أكرّرها وأتخيّلها وفي جميع المرّات يكون انطباعي واحداً.

التناصّ

التَناصّ جزء من الأدب المقارن، مصطلح نقديّ يقصد به حضور لنصّ غائب في آخر. وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نصّ معيّن ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نصّ في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نصّ تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبية. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلّق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة، وهو من أهم الأساليب النقدية الشعريّة المعاصرة، وقد تزايدت أهمية المصطلح في النظريات البنيوية وما بعد البنيوية.

وتقول نادين طربيه: التناص حاضر قبل أن يسمّى بالتناص ويتعارف عليه كما هو اليوم، سيبقى التناص يشكّل ذاكرة النصّ وذاكرة القصيدة والإبداع، لذلك لا نعمل خارج التناص، كلّ ما نبدعه أو ننتجه ليس إبداعاً محصوراً بالذات فقط بل هو عبارة عن تأويلات تدلنا على تراث محلي وعالمي يرتبط الفرد المبدع. فالتناص يبقى ويستمر لأنه مرتبط بالبنية النفسيّة للذات المبدعة وللذات الإنسانية ككلّ، نحن نتشكّل من التراكمات التناصية.

التناصّ اليوم كما كان في حالته على أيام علي بن عبد العزيز القاضي الجرجاني وفي الستينات مع جوليا كريستيفا حيت سميّ بالتناصّ.

روتين وشعر

الشعر جزء من كيان نادين، يمثّل بالنسبة إليها حالة ذاتية وجودية وإبداعية رائعة، إنّما لديها فضول وشوق لتكتشف ماذا فعل المفكّرون والمبدعون الذين جاءت أرواحهم قبلنا، ماذا استنتج العظماء. أمّا الشعر فحالة تزورها إنّما لا ترافقها كنبضها لأنها تموت بذلك ولا تعود شعراً بل تصبح روتيناً، والشعر لا يشبه الروتين.

أمّا حول التمرّد، فتقول نادين: نواجه الكثير من التحدّيات، هناك من يختار أن يمشي في ظلّ حائطٍ ما، ومنهم من يختار الانسحاب وآخرين يختارون المواجهة، وأنا ممن يواجهون، ولكن مواجهتي تكون دائماً بشرف لا الغدر. شعاري دائماً التمرّد في وجه الظلم، والتمرّد ضدّ إلغاء الآخر. وشعاري التمرّد أمام قتل الإنسان الذي فينا. نحن نحتاج إلى الكثير من التعاطف والحبّ حتى نحافظ على الإنسان، لأن الإنسان أهم من النصّ والسلطة، الإنسان هو الأساس.

لا تعي نادين طربيه بدايتها، لأنها تعيش كل يوم بداية جديدة، فتكتشف كلّ يوم شيئاً جديداً عن ذاتها وتفاعلها مع هذا الكون، لا تعرف كيف تحدّد البدايات، إنّما تعيش هذا التجدّد كلّ يوم، كأنّها تولد الآن من خلال قراءة كتاب أو خلال تعرّفها إلى أديب.

منطقية بطبعها وشاعريّة بنفسها، تحمل الجهتين، تستطيع أن تكون حالمة وشغوفة وفي الوقت عينه منطقية وواقعية، الأمر الذي ساعدها في نجاحها. هذان النقضيان ساعداها في بناء واكتمال شخصيتها بين الحلم والوقاع، وبين الشعر والدراسات.

وفي حسّها نهمٌ ينفرد في أبيات قصائدها، كقصيدة «ارتقيت في حبّك حتى الشهادة»، التي تُرجمت إلى الألمانية في الأنطولوجيا الألمانية «العالم في عيوننا»:

وارتقيت في حبك حتى الشهادة

ووُسمت بِاسمك حتى الدينونة

هلّا خرجت قليلاً من حدسي

من عروق يدي

هلا تركتني حتى أتفاهم مع نبضي

حتى لا يرجف تحت وقع دمعك

اسمح لي ولو لمرّة أن أكرهك حتى النهاية

أن أخرج من جلدك، أن أصفعك فوق وجوه الجرائد

أن أحرق كل دروبنا، وأضحك مثل الصغار

اسمح لي و لو لمرة أن أعوم

فأنا مذ عرفتك وماء المحيط يسكنني

ويطفح من وجهي من ثغري من عيني.

انفلاش

الشعر اليوم يعاني من حالة انفلات وانفلاش على صعيد الشعراء الذين يقولون الشعر، وتقول نادين عن ذلك: بتنا للأسف في زمن كثُر فيه المستشعرون، ولكن يعرف الشعر أبناؤه وأبناء الشعر يعرفونه، لذلك لا مخافة عليه، حتى لو شعرنا أن هناك فوضى بسبب هذا المجال بسبب وجود مواقع التواصل الاجتماعي أمام الكثيرين حتى يعبّروا عن تجاربهم بشكل شعري أو بشكل متعدٍّ على الشعر، مع ذلك يعي الشعر كيف يغربل، والزمن هو المعيار الحقيقي.

«العالم في عيوننا» الأنطولوجيا الألمانية

كتَبت عن علاقة المرأة بالرجل في مجتمع شرق أوسطي، عن المرأة بصورة الذكر، المرأة المرذولة والمهمّشة والمغتصبة، وتقول: أنا في الأساس من مناصري حقوق المرأة بشرط ليس على حساب الرجل، لأنني لا أؤمن بأحادية المرأة في المجتمع أو أحادية الرجل. أؤمن بالمشاركة في ما بينهما. لكن لا يمكن إنكار أن المرأة في شرقنا لا تعامل بعدل، بل إنّ رواسب الأفكار الذكورية منطبعة في أذهان الأجيال الصاعدة، ذلك يؤكّد أن المرأة لم تحصل على حقّها الإنساني الذي يعتبر أسمى الحقوق، والحقّ في احترامها وطريقة التعامل معها.

الأنطولوجيا الألمانية كانت قفزة، بحسب نادين طربيه، نحو جوّ آخر، وكانت احتكاكاً بالفكر النقدي الألماني.

وتقول: فرحت بالتجربة، لكن أعتقد بأن لو قمنا بتدريس هذه النصوص وإعطائها لمجموعة من الطلاّب الألمان لتحليلها وأتحدّث عن النصوص بحدّ ذاتها لا تجربة المرأة في الشرق فقط لكانت حققت نجاحاً باهراً في هذا المجال.

القصيدة… ليست قلعة محصّنة

القصيدة هي امتداد الشاعر ومرآته وليست قلعته المحصّنة من الألم، بل هي عمق التجربة وألمها، هي لحظة امتداد الروح، ما هي القصيدة؟ هي عندما تنضح المشاعر والأحاسيس من الكيان وتفور وتبوح على الورق وتنتشر على الورق وتجلّى على الورق، وهي أصدق ما يمكن أن يقول الشاعر، وأرقّ ما يمكن أن يبوح به شاعر، وأكثر اللحظات صدقاً مع الذات هي الشعر.

أعمال مستقبلية

لها كتاب عبارة عن دراسات انتهت من طباعته، وسيصدر في معرض بيروت الدولي 2019، هو كتاب بحثيّ يقع في حوالى 350 صفحة. كما لديها عدد من الأعمال الشعرية الجاهزة لكنّها تتروى في نشرها إلى أنّ تتبلور خطواتها الشعرية وترضى عنها.

قصيدة

في عبّ الليل خبّأت كلّ أوهامي

ساورني قلق الجمود

فاغتسلت بدمعي حتى العبق

ردّني إلى جنوني

فالشمس عادت من شفق

ردّني إلى غياهب الطفولة

أشنق فوقها بقايا حزن… بقايا انهزام

يا ظلّي المتكلّم في صمتي

عمّدني بكحلك حتى القيامة

عمّدني بريق الألق

أخبرني حتى صياح الديك

ولا تنكرني ثلاث مرات

جمّعني في محيط روحك صدى الروح إذا انبثق

يا أيّها المصطفى الحائر

يا برّ البحّا التائهة

خذني إلى الحلم

أعطني وطناً من زئيق

أعطني كتفاً لا تنهار

أعطني وجهاً من نور ونار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى