على سبيل المقال… الطرق كلّها تؤدّي إلى القدس!
طلال مرتضى
أمشي ملء شوارع المدن الفاصلة مثل أحدبها الذي صار وسماً… تجتاحني على مرّ الطريق نوبة ذكريات عارمة، حاولت تبديدها أو تشتيتها وأنا أركل بقدمي عبوة «البيبسي» التي رماها لاجئ مثلي على الطريق، على الرغم من معاينته نظافته، عبثاً وكأني بها ـ أي الذكريات ـ تترافد كأهداف ذهبية لا تخطئ شباكها.
كان عليّ تفادي الارتطام المهيب بسرّة الشوق، ثمّ عدلت بالتلطّي وراء ظلّ إصبعي الذي بُترت شارة مغزاه. لا ضير ما دامت الحكاية كرّ وفرّ.
في مدن الصقيع يمشي اللاجئ متخفّفاً من كلّ شيء إلا من صمته، كما ولدته أمّه في المرّة الأولى عندما أترع من جوفه الصرخة الأولى.
هنا، متاح لك أن تفعل ما تشاء، اِنتقد ما شئت، قل هذا لا يعجبني، يمكنك التنديد ملء حنجرتك بسياسة الحكومة، وأن تطالب بإسقاطها لأن سياستها لم تكن تلبّي طموحك، الحرّية، نعم الحرّية المطلقة، هل سمع أحدكم قبلاً تلك المفردة؟
لم تفلح كفّي في لجم الضحكة التي تسرّبت من بين أصابعي مثل زئبق موارب النوايا، ألا لعنة الله على الشيطان، حرّية… قال: حرّية.
بصراحة، تلفتّ حولي وأنا أردّد الكلمة بصوت مسموع، كنت أعرف بسليقة المكان أنّ الكلمة التي سمعها عابرو الطريق كلّهم، لا تعنيهم لا من بعيد ولا من قريب، وما التفاتتي تلك إلا نكزة منبّه من الحارس الضمنيّ في داخلي، والذي كنّا نهرب منه بالصمت على حجة أن الحيطان لها آذان. على سيرة الآذان، خطرت ببالي فكرة مثل هجمة مرتدة، ماذا لو أطلقت الآن تكبيرة مدوّية: «الله أكبر.. الله أكبر..»؟! ـ «الله ياخذك إن شاء لله.. بدّك تكبر ما يا أخو الـ…»؟
بعد أن نالت أختي ما نالت من شتيمة، استفاق حارسي الضمني من نومه، الحارس الذي أتيت به في مخيّلتي هو الوحيد الباقي في رأسي من إرث البلاد، دائماً طلّته المهيبة تذكّرني بمهابة المساعد إبراهيم المصري مسؤول التوجيه السياسي أيام الجندية وهو يزرع قاعة المحاضرات جيئة وذهاباً وخيزرانته اللدنة تتراقص بين أصابعه التي شابكها وراء ظهره: «حرّية يا ابن الكلب… لك حيتان المحيطات شبعت من لحمكم النتن، لك ريحة وسخكن وصلت سابع سما.. ألا لعنة الربّ عليكم.. حرّية يا».
أقسم بالله العظيم لم أتلفظ بها وأنا ماشٍ وهائم على وجهي، إنما افتعلتها فقط هنا كمفتاح أوّلي للمقال: «صلّ على النبي… شو حرّية ما حرّية… يا عمّي الحرّية إلها أهلها.. أي والله إلها أهلها».
وأنا أتمتم وصلت مجدّداً إلى علبة «البيبسي» التي أنهكتها الركلات دونما أيّ هدف، لعلّي رأفت بحالها وقت أسكنتها صندوق القمامة المعلق على عمود صغير يشبه بالزينة نارجيلة جارنا في البلد أيام البلاد، «أبو صطيف».
بالتأكيد «أبو صطيف» هذا لا دخل له بكل هذا الكلام، أنا متأكد لو أنّ أحداً ما غرّر به وجرّه ذات مرّة للتظاهر ضدّ الحكومة، لن أنفي أو أدافع عنه، هو خرج ليطالب فقط بتأمين مادة «المعسّل» وجعل سعره مدعوماً كما الخبز أيام الخبز.
«آخ عَ الخبز.. والله ما بيّن ملحه ببطونا… كيف بدّه يبان بعيونّا.. الله أكبر على اللي كان السبب»!
«بشرفي أنا حدا لازم يظلّ بالبيت.. لأني متل ال… ما بتعلّم بحياتي».
تفقدت بعناية وجه المرأة التي لسّ كتفي كتفها، متفحّصاً، بالسؤال، هل من ردّ فعل ظاهر على محيّاها، بعد أن خرجت من فمي عبارة «الله أكبر».
هذه المرّة لم أردّدها كما كان قبل قليل، تأكّدت تماماً أنّ كفّي تغلق كلّ متاهات فمي، لم يتسرّب من الكلمة المدوّية حرف واحد.
لعلّ البعض يستهجنون، أو امتعضوا من تفخيمي الأمر، ما الذي يحدث لو قلتها وبصوت مسموع؟
ضحكت مجدّداً عندما انتصرت اللغة هذه المرّة، مرّرت الكلمة من دون تشكيلها السمعي والكتابي بفاعلية اللغة، وأنا أردّ على سؤال الرجل.. من حسنات هذه البلاد يا صديقي أن موظفيها يعملون مثل الأنعام من صباحات الربّ إلى مساءاته، وهنا لا أريد أن يتوقف أحد عند كلمة الأنعام لأنني لا أقصد بها الشتيمة بالمطلق بقدر ما هي صفة إخلاص لبلادهم، المدن هنا مؤلفة من طابقين الأول يستمتع روّاده بالتأمل بمساحات الجمال على الصعيدين العمراني والإنساني، والطابق التالي هو تحت الأوّل تماماً، وهو الأهمّ بنظري، حيث جلّ وسائط النقل والبنى التحتية تشغله. كنت يومها وصديقي منشغليَن في حديث عابر، وعلى مقربة منّا يجلس رجل تشي سحنته بأنه من أبناء البلاد التي نشبت بها ناب ربيع أصفر النوايا. كان الرجل يلصق ذقنه بزجاج نافذة القطار السريع، لم يكن ليكترث البتة بالحسناء فاقعة البياض التي تقاسمه المقعد المزدوج، لست أدري في أيّ عالم كانت تبحر به أفكاره. وبينما هو على هذه الحال، مرّ القطار المعاكس وكأنه طلقة عبرت في محاذاة نافذة الرجل في النفق المظلم. على غير نيّة، فزع الرجل وصرخ بعفوية: «الله أكبر»! لم يدرِ أن سرعة مجانبته الحسناء كانت تضاهي سرعة البرق، حين وقفت وشدّت مقبض الخطر الذي يجعل من القطار الطلقة كتلة حديد جامدة في مكانها، من هول الواقعة لم أنتبه للسيدة العجوز التي طارت بقدرة قادر لترتطم بي وكأنها ريشة.
انتهت الحكاية على خير بعدما تبيّن أن تكبيرة الرجل جاءت نتيجة الفزع حين عبر القطار المعاكس لا لأجل أمرٍ آخر. بقيت صامتاً طوال الوقت لأنني كنت أقرأ في عيون الجمهور حالة التفرس العجيبة لوجود إرهابيّ في بلادهم كبّر بِاسم الله.
يقول قائل، الشيء بالشيء يذكر، أي أرهابي.
«يا زلمي، في تمّك لسان متل محراك الشرّ، يعني ما رح يمرّ هذا المشوار على خير. يا أخي ارجع وسكّر باب غرفتك واحكِ براحتك، هون ما في للحيطان آذان، اشتم، استنكر، ندّد، اشجب، لك غنِّ… إي غنِّ».
بصراحة، الفكرة مجدية تماماً. ذات مرّة سمعت فيروز تغنّي لجبران النبي: «أعطني الناي وغنِّ… الغنا سرّ الوجود».
يا الله.. يا سرّ الوجود، لم يعد في الوجود سرّ يُخفى، صحيح.. في هذه العجالة أودّ أن أسأل، لماذا السرّ سرّ، مع أنّ كل شيء واضح مثل ضوء الشمس؟
بصراحة، كل بلاد فيها كفايتها، من المهرّجين والمهرّبين، من الـ… والـ…
«يا أخي بشرفك غنِّ، غنِّ أي شيء أو اِبلع لسانك بكهف تمّك أحسن ما يجي حدا يسوّي منه جطل». «جطل» هذه من خارج مدارك المقالة تماماً وتعني «النقيفة». «النقيفة» هذه، كيف سأشرحها لكم لا أعرف، أعرف أنها من المطّاط تُنقَف بها الحصوات، وأثبتت فاعليتها تماماً في الميادين، والمثال على ذلك، أطفال الانتفاضة الفلسطينية، كانوا ينقفون الجنود اليهود بنقيفاتهم نقفاً.
«يا أخي غنِّ… عشان الملائكة… يعني يا دين أو تين؟».
السيدة فيروز بمهابتها بقيت عالقة على وتر لساني الذي دنّ قبل قليل: «الغِنا سرّ الوجود»، ليتحوّل اللحن نحو الأيام السالفات بمطلع أغنيتها المحبّبة إليّ: «بكرا لما بيرجعوا الخيّالة».
نعم، منذ الصغر وهم يعلموننا «التاريخ يعيد نفسه»، هذا يعني أنّ مقولة السيدة فيروز صحيحة: «بكرا بيرجعوا الخيالة».
«شوارع القدس القديمة»، «يا قدس يا مدينة المدائن»… يا…
وأنا أعبر السلّم الموسيقيّ لتلك الأغنيات البائسة، وجدت صعوبة كبيرة في التملّق والتسلّق عليه، كان عليّ إيجاد لحن خفيف يتناسب والحالة. أيّ مدائن هذه؟
«وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان»… و«بعدين شو»؟
«وين الملايين… وين الملايين… الشعب العربي وين.. وين.. وين؟».
كان رجع الصوت يردّد معي: «يا ابن الـ… عم تسأل وين… وين يعني؟».
معك كلّ الحق… ما كان عليّ السؤال، من سألت عنهم ليسوا بملايين ولا حتى عشرات. أبي الطاعن في عشقه لبيتنا العتيق، بيتنا العتيق، يعني البيت الذي بناه في ريف حلب، أرجو ألّا يذهب فكر أحدكم إلى البعيد، أبي وأمي التي ماتت قبل ولادة «إسرائيل»، أميّان، يعني كلمة «السامية» بالنسبة إليهما جاءت من سامي، وسامي أحد أبناء بلدتنا سافر هو وعائلته إلى السعودية أيام عزّ السعودية.. أدام الله عليها العزّ.. ولكثرة ما كان يرسله سامي من هبات لأهل البلدة، بقي أبي يمجّد كل ما هو سامٍ إلى الآن. وبما أنني في بلاد تحترم «السامية» والساميين الأجلاء، تحضرني مناسبة تسمية «القدس» عاصمة لدولة الكيان الغاصب، ومن باب الجيرة بعدما سقطت من قاموسي وقاموسنا جميعاً الغيرة. في هذا المنوال، أتقدّم من «أمير المؤمنين» دونالد ترامب، ومن تولّى على عرش بيت المقدس، إضافة إلى كلّ الأخوة داعمي الفكرة من العربان والمستعربين، من المسلمين والمتأسلمين بأطيب التبريكات، مستنكراً، شاجباً، مندّداً كلّ من يستنكر ويشجب ويندّد مقالي هذا.
«يا جماعة.. أنا مع الحرّية التي تنازلت عن القدس، ومع السامية بعينها التي ورثتها عن أبي الذي ورثها بدوره من سامي ابن بلدتنا، وكل ما ورد في المقال أعلاه أتخفّف منه في الخاتمة، بالنهاية أنا إنسان لاجئ وفي بلد غريب، وأنا أحفظ ما تعلّمته في مدارس البلاد، وعندي ذاكرة شعبية أندّد بها كلّ الملايين الذين بحثت عنهم توّاً ولم أجدهم». «يا… غريب كون أديب». لعلّي أتوقف عن المشي هنا. فالوقوف يعني توقّف سيلان الأفكار وترافدها، لأن تلك الهواجس، الترّهات التي عبرتموها توّاً في رأسي، وحدها كفيلة بأن تهبني تذكرة مجانية تودي بي إلى دمشق أو بيروت وعلى أفخم الطائرات النفاثة. التوقّف هو أقل الخسائر كي أنهي بما تيسّر لي من آيات الشكر والحمد لأن التذكرة تلك كانت إلى دمشق ولم تكن إلى غزّة. وعلى سيرة غزّة، كان عليَّ قبل التوقيع عند الكلمة الأخيرة، أن أُذكّر أهلها بوصايا رجل التقوى والفضيلة السيّد «أفيخاي أدرعي» الذي ترجّى أخوة التراب في غزّة بألا يسمحوا لخطباء مساجدهم بأن تكون خُطبهم محرضة ضدّ «إسرائيل»، لأن يوم الخطبة أي الجمعة هو يوم إيمانيّ خالص لله!
شاعر وناقد سوريّ