الانتحار في لبنان… انحدار اجتماعي وقِيَميّ ومنتحِرٌ كلّ ثلاثة أيّام

تحقيق: منى سكرية

غالباً ما يستنكر أحدنا وبالصوت العالي أو في سرّه نبأ انتحار شخص ما. فالانتحار المحرّم دينياً، وغير المقبول اجتماعياً، والمستهجن إنسانياً، لم تردعه كل الاسباب المذكورة آنفاً. وبقيت الأرقام العالمية تشير إلى ارتفاع هذه الظاهرة. إذ ذكر التقرير الصادر أخيراً عن منظمة الصحة العالمية أنّ عدد المنتحرين سنوياً في العالم قارب 800 ألف شخص، عدا عن محاولات الانتحار التي يفشل مرتكبوها في وضع حدّ لحيواتهم.

هذه السنة، كرّست المنظمة يوم العاشر من أيلول يوماً عالمياً لمنع الانتحار، بالاشتراك مع «الرابطة الدولية لمنع الانتحار»، وأصدرت لهذه المناسبة تقريرها الذي شمل 172 دولة في العالم، ومنها 17 دولة من أصل 22 دولة عربية.

كان للأرقام التي ذكرها التقرير عن لبنان وقع الصدمة، إذ أفاد عن وجود منتحر كل ثلاثة أيام، ومع ذلك فإنها، بحسب التقرير، لا تحظى بإبلاغ الأهل عنها «لعدم قبول الانتحار كحالة اجتماعية».

طبعاً، كرّرت منظمة الصحة العالمية الهدف من نشر تقريرها الذي استغرق عقداً كاملاً من السنوات حتى تمّ إنجازه، والهدف نشر الوعي حول خطورة الانتحار وتأثيره من منظور الصحة العامة، مشدّدة على ضرورة وضع قاعدة بيانات عن حالات الانتحار، وتوثيق هذه الحالات، والكشف عنها من أجل تسهيل وضع استراتيجية مطلوبة وأساليب عمل للتدخل.

ورأت الاختصاصية النفسية في مجال الدعم النفسي والاجتماعي في الجامعة الأميركية، والاستشارية مع عدد من الجمعيات علا عطايا في حديث لـ«الوكالة الوطنية للاعلام»، أنّ «الانتحار حال قصوى من حالات الضيق التي بدأنا نلمس تزايدها لدى الشرائح الاجتماعية. والأمر لم يعد محصوراً بفئات عمرية معينة». لافتةً إلى أن الاضطرابات النفسية تتزايد، ومثلها تعاطي المهدئات، حبوب المنومات، إدمان الكحول، وطبعاً المخدرات.

وتفسّر الضغوط وفقاً لقاعدة الباحث الاجتماعي ماسلو، أنها تبدأ بالحاجات الفيزيولوجية من مأكل ومشرب ومأوى، ثمّ يأتي الشعور بالأمان والاستقرار، ثم تحقيق الذات. ولهذه الاسباب تشير عطايا إلى ارتفاع حالات الضيق في المجتمع اللبناني، يُضاف إليها سرعة التغير في أساليب الحياة، وتسارع متطلباتها إلى جانب عدم القدرة على الحصول عليها.

يذكر أنّ عوامل الضغط يقابلها قيم التربية وحماية المجتمع ووجود الاصدقاء، والتمسك بالايمان، وهذا ما نلاحظ تراجعه كقيم في أيامنا هذه، ما يدفعها إلى ضرورة التنبه إلى تنمية حسّ الثقة بالنفس، والقدرة على المواجهة، وتوعية المجتمع لأهمية التماسك القيمي الاخلاقي. أما دور الدولة ومؤسساتها فمهمّ في مجال الوقاية، لا سيما تأمين الرؤية الواضحة لمستقبل الشباب، وأيضاً في بثّ شعور الأمان لدى المواطنين.

وأشارت عطايا إلى أنّ عدم إبلاغ الاهل عن انتحار أحد أفراد العائلة يعود إلى الخجل غير المبرّر، إضافة إلى عدم اعتراف شركات التأمين بدفع البدل المالي عن هذه الحالات، مشدّدة على ضرورة معالجة المراحل التي تسبق ما قبل الوصول إلى مرحلة الضيق والانتحار لأن الموضوع مركّب ومعقّد.

واقترحت في هذا الموضوع إدخال مادة المهارات الحياتية في المناهج التربوية لأهميتها في التعرف إلى الذات، وكيفية التواصل الفعّال مع الآخرين، والتربية على اتخاذ القرارات، وسبل مواجهة الضغوط، ومادة المهارات الحياتية مادة أساسية في مناهج التعليم في عدد من دول الغرب.

واقترحت أيضاً تعزيز لغة الحوار المنفتحة بين الأهل وأولادهم، وزيادة برامج التوعية الشبابية وشرح الخصائص العمرية، وكذلك في إيجاد مساحات صديقة لكل الاعمار، وحدائق للترويح عن النفس. مبديةً أسفها لغياب الكثير من أسباب الوقاية المسبقة. معتبرة أن مجتمعنا غير محصّن أمام التغيرات التكنولوجية ومتطلبات الأحوال المعيشية. مشيرة إلى وجود حال من الانحدار الاجتماعي، تنسبها إلى غياب المحبة، وراحة البال، وازدياد العدوانية في العلاقات الاجتماعية. وهناك شرخ في العلاقات، ونحتار من أين نبدأ بالمعالجة.

وفي هذا السياق، نشير إلى مبادرة الجامعة اليسوعية في بيروت قبل سنوات، إذ عُقدت ورشة مغلقة ناقشت ظاهرة الانتحار، تخللها محاضرة للدكتور سامي ريشا رئيس قسم الطب النفسي في الجامعة اليسوعية، أنّ ما يهمنا في الطب النفسي تعاطينا مع أشخاص لديهم أفكار انتحارية. معتبراً أنّ الشخص الذي يعاني الاكتئاب هو الذي يقدم على الانتحار. فالاكتئاب من أهم أسباب الانتحار، خصوصاً بعض الانواع التي تؤدّي إلى ارتكاب فعل الانتحار وهو ما يُسمّى الاكتئاب ذو القطبين. هذا مرض مهم، وهو مرض بيولوجي، ولا يأتي من سبب معيّن بالضرورة، ربما تكون الحالة عائلية، فالعوامل البيولوجية من أهم العوامل البيئية، وهناك حال عكس الاكتئاب، أي نوع من المسّ من البسط والفرح وتبذير الاموال، وهذا المرض كثيراً ما يؤدي إلى الاكتئاب. وهناك أسباب أخرى منها الامراض المزمنة وانفصام الشخصية والادمان على المخدرات والكحول وغير ذلك.

وأشار ريشا إلى عدم القدرة على التأقلم مع ظروف الحياة كدافع للانتحار، إذ ليس كل البشر في المستوى ذاته من القدرة على التأقلم مع تحدّيات هذه الظروف.

وذكر انه ما من تعريف محدّد واحد للانتحار، بل هناك مدارس متنوّعة تجاه هذا التعريف. فالانتحار هو كل عملية يقوم بها شخص تجاه نفسه وتؤدي إلى موته. ولكن ما هو مختلف عليه هو تحديد العوامل التي أوصلت إلى الانتحار. أما اختلاف المدارس فهو في نظريات الامراض لا في الانتحار. الانتحار ليس مرضاً إنما عارض مرضي.

وخلص إلى أن الانتحار مع انه حال نفسية مرضية لكنه أيضاً حال لها أبعاد اجتماعية وفلسفية ودينية. فالطب النفسي ليس طباً وبيولوجيا فقط، لافتاً إلى طرق عدة تمارس في الانتحار منها إطلاق الرصاص، الادوية والشنق وتناول مواد سامة، وقيادة السيارة بسرعة فائقة، وتناول كمية كبيرة من المخدّرات دفعة واحدة إلخ… مشدّداً على ضرورة إيلاء وسائل الاعلام توعية المجتمع على مخاطر الانتحار والعمل على الوقاية منه، وهو ما انتقده أيضاً تقرير منظمة الصحة العالمية الذي أشار إلى تركيز هذه الوسائل على حالات انتحار المشاهير، ما يشجّع المهمشين على الاقدام على الانتحار.

وذكر المدير الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية في شرق المتوسط الدكتور علاء الدين العلوان أنّ القيم الدينية في المجتمع العربي تحدّ من حالات الانتحار. ولكن ماذا لو سألنا عمن يعتنقون هذه القيم ويقومون بنحر الآخر المختلف عنهم؟

والسؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا تقصير وسائل إعلامنا المحلية بكافة فروعها في التطرّق إلى مسالة الانتحار من زاوايا الوقاية منه والتحذير والتوعية؟ نعم هناك تقصير هائل!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى