إشمئزاز وغضب
وجدي المصري
«إنّ الأمة التي تحمي اليهود إنّما تحمي نفسها من غضب الله» ـ توماس نيوتن
لأيام خلت حاولت جاهداً الإمساك بالقلم لأرغمه على أن يخطّ بغضب ما يعتمل في صدري من اشمئزاز للوضع المزري الذي وصلت اليه أمتنا السورية وعالمنا العربي. واستمهلت يدي من احتضان القلم، بمسألة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، ولم أكن بذلك من الذين يثقون بهذه الجامعة وقراراتها بل من المشكّكين الذين يطلقون الأحكام انطلاقاً من المواقف المعلنة لشعبنا في جنوبنا السوري فلسطين الذي قدّم في أيام معدودة عشرات الشهداء ومئات الجرحى إثباتاً لحق العودة والملكية التاريخية للأرض ورفض قرارات التهويد الأميركية والإسرائيلية على السواء. أدركت أنّ هذا الشعب هو بحاجة هذه الأيام، وأكثر من أيّ وقت مضى، لأوسع حركة دعم من كلّ المفكرين والمثقفين والكتّاب والإعلاميين، ليس فقط على امتداد مساحة الأمة، وإنّما على امتداد العالم. وأثار اندفاعي أكثر ما بدأت أسمعه وأقرأه من بعض الإعلاميين، أيما فايجلاند مثالاً، حول موقف ترامب الأخرق وكلام صهره جاريد كوشنر خلال افتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة. ترامب، كغيره من الرؤساء الأميركيين، يؤمن بأنّه «إن تخلّى عن إسرائيل فإنّ الله سيغضب عليه». هذه الفكرة تناقلها مفكّرون مسيحيون أنكلوسكسونيون، منذ أن وطئت أقدامهم القذرة أرض العالم الجديد وبدأوا بإبادة قبائل الهنود الحمر. هؤلاء المهاجرون اعتبروا أنّ الأرض الجديدة هي أرض ميعادهم وهم الشعب المختار الذي أرسله الله لإحيائها، هي كنعان الجديدة وهم يهود العهد القديم الذين اختارهم يهوه ليرثوها. وعلى سبيل المثال يقول أندرس ستيفنسون: «فمن خلال تأسيس إسرائيل الجديدة الولايات المتحدة سيتمتع هذا الشعب المختار بحق مطلق وشامل ومقدّس في هذه الأرض، وسيبدأ بإعادة صياغة العالم وتهيئته لحرب نهاية التاريخ أرمجدون . بذلك يتحقق العهد بين يهوه وشعبه. إنّ كلّ مصير العالم معلق على هذا العهد، وقد جاء البيوريتانز للتأكيد على هذا البعد في قضية اختيار الله لهم وعهده معهم. إنّ البيوريتانز يتحمّلون مسؤولية كبرى في خروجهم إلى «إسرائيل الجديدة». فبهذا الخروج صارت رسالتهم على الأرض صورة حرفية لرسالة بني إسرائيل وصار العهد مع يهوده يشملهم أيضا» من كتابه: القدر المتجلي الذي صدر عام 1995 .
هذه النظرية تحكمت بكلّ المفكرين ورجال الدين ورجال السياسة الأنغلوساكسونيين البيوريتانيين منذ أن وطئت أقدامهم الأرض الجديدة، أيّ القارة الأميركية، وما زالت تتحكّم بهم لغاية اليوم.
وكلام كوشنر خلال افتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة خير دليل على هذه الاستمرارية الفكرية المسيطرة على عقول الإنجيليين الجدد، ومن هذا المنطلق أتحفنا بحكمته التي تمثلت بقوله: إنّنا نقف الى جانب إسرائيل لأنّ كلينا نؤمن بالحرية والديمقراطية والإنسانية. وهذا صحيح، ولكن ليس بالمطلق، لأنّ الولايات المتحدة وإسرائيل تؤمنان بهذه القيم الإجتماعية من منظورهما الخاص الذي يتماهى مع مصلحتهما وليس مع المعيار العام لهذه القيم. مصلحتهما هي المقياس، وهذه المصلحة تقتضي إبادة كلّ من يقف بطريق تحقيقها. ومن هذا المنطلق تصبح إبادة الهنود الحمر هي إنسانية بامتياز، لأنّ المستعمر الأوروبي نظر الى الهنود الحمر على أنّهم حيوانات وذلك لأنّه كان مفعماً بالمفاهيم التوراتية التي تعتبر كلّ شعوب الأرض حيوانات مسخرة لخدمة اليهود وهم يجب أن يبادوا، وفي أحسن الأحوال يستعبدوا. يقول الدكتور شارلز كالدويل في كتابه الذي يعتبر «تحفة» بالتمييز العرقي خواطر في وحدة الجنس البشري : «عندما يتحوّل الذئب والجاموس الوحشي والفهد إلى حيوان أليف كالكلب والبقرة وقطة البيت، عندها، لا قبل ذلك أبداً، ربما يتحضّر الهندي ويصبح مثل الإنسان الأبيض». وهذا التفكير العرقي العنصري هو ذاته تفكير اليهود. والحرية برأي الأميركيين واليهود تعني حريتهم بالسيطرة على الأرض التي منحهم إياها يهوه بصفتهم شعبه الخاص، وخارج هذا المفهوم يصبح كلّ شعب يطالب بحريته إرهابياً من محور الشر. أمّا عن الديمقراطية فهي تعني أيضاً أن تسلّم شعوب العالم للأميركيين بأنّهم سادة العالم دون منازع، ولليهود حقهم، الذي لا تشوبه شائبة، بالعودة غير المشروطة إلى أرض رآها كاتب التوراة بأنّها تفيض لبنا وعسلاً فتمناها في قلبه واخترع إلهاً قوّله كلّ ما يعتمل في مخيّلته من حقد وجشع واستكبار وإجرام وأهدى نفسه وشعبه على لسان هذا الإله أرض غيره والتي لا يمتّ إليها بصلة. جاء في سفر التثنية الإصحاح السادس ما يلي: «ومتى أتى بك الرب إلهك وليس إله البشر الى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيك. إلى مدنٍ عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كلّ خير لم تملأها وآبار محفورة لم تحفرها وكروم وزيتون لم تغرسها… الربّ إلهك تتقي وإياه تعبد بإسمه تحلف». هو اعتراف واضح بوضعية أرض كنعان العمرانية الزراعية الخيّرة من جهة، وإعتراف بنرجسية إله اليهود وإجرامه من جهة أخرى.
اليهود والأوروبيون زورّوا التاريخ ليتماهى مع روحهم الإستعمارية الخبيثة، وهم ما زالوا وسيبقون أوفياء لهذه التعاليم التوراتية المتحجرة. الأوروبيون الذين وطئوا شواطئ العالم الجديد ما زالوا يكذبون بشأن الهنود ويسخّرون الإعلام لكي يجعل الناس يصدّقون أكاذيبهم، ولقد نجحوا، وقبائل العبرانيين البربرية التي استولت على جزء بسيط من أرض كنعان في الماضي، عادت بعد ثلاثة آلاف سنة بحجج إلهية مستفلين المؤمنين فأقاموا دولتهم على جزء من أرض كنعان، وهم اليوم يكذبون ويلومون الضحية إن وقف بوجه الجلاّد. يقول البروفسور إيلان بابه في كتابه خارج الإطار ما يلي: «كانت المظاهرات الأولى للانتفاضة، انتفاضة العام 2000، تُصوَّر على أنّها «إعتداء على الجنود» وليست احتجاجات ومسيرات سلمية للتنديد بالاحتلال، وهي ما كانت عليه في واقع الأمر».
لا عجب من مواقف الولايات المتحدة ودولة العدو من صراعنا ضدّ دولة الاحتلال، العجب كلّ العجب من مواقف معظم الدول العربية التي باتت تردّد مقولات العدو لجهة أنّ لليهود حقاً إلهياً بفلسطين، وأنّ لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها ومواجهة «اعتداءات» الفلسطينيين العُزّل. هذا الكلام الذي يردّده اليوم معظم حكام الخليج يجعلنا أكثر من أيّ يوم مضى نؤكد على صحة مقولات سعاده لجهة رفضه أن تتعاطى أية جهة بالمسألة الفلسطينية إلاّ الأمة السورية التي لها وحدها الحق بتقرير ما يلزم، لأنّ المسألة الفلسطينية هي جزء من القضية القومية الكبرى التي تشكّل قضية الأمة السورية جمعاء.
لقد برهنت كلّ الأمم العربية التي تنادي بأمة عربية واحدة بأنّها قد باعت فلسطين وهي تلهث اليوم وراء اليهود والأميركيين لكي يقبلوا بالسماح لهم بالتقاط فتات الموائد. من المغرب العربي، إلى مصر والسودان، إلى الخليج العربي إلى ما يُعرف بالجامعة العربية، سقطت كلّ الأقنعة لتؤكد من جديد أنّ سورية وحدها بكلّ كياناتها، معنية بالمسألة الفلسطينية. حجر كلّ شاب فلسطيني يرشق بها جنود الاحتلال لأشرف من كلّ تيجان الملوك وعروشهم. منكم أيها الأبطال نتعلّم معنى الكرامة. من الصبية اليافعة عهد التميمي نتعلم معنى العنفوان. ومن سناء ووجدي وخالد ومالك وكلّ شهداء نسور الزوبعة نتعلم العزّ.
لست وحدي، بل كثر على ما أظنّ، كانوا يتوقعون أن يسمعوا بعض الأصوات المعترضة، ليس فقط على نقل السفارة الى القدس، بل على الإجرام «الإسرائيلي» الذي يُمارَس بحق أصحاب الأرض العُزّل. كنّا نتوقع أن تحثّ الأريحية العربية الحكام على رفع الصوت والتنديد بالمجازر، وعلى، إنْ لم نقل سحب السفراء للدول التي تقيم علاقات مع دولة العدو اقتداء ببعض الدول الأجنبية، التهديد بقطع العلاقات ووقف عمليات التطبيع. لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث لأنّ معظم الحكام العرب موافقون على إبادة الفلسطينيين مقدّمة لتصفية المسألة الفلسطينية. فهل يمكن أن يقوموا بالشيء ونقيضه؟ وهل يملك المرتهَن للولايات المتحدة ودولة الاحتلال أن يعارضهما بقرار اتخذاه؟ وهل يمكن لمن اعتاد أن يعيش بالذلّ أن ينتفض لكرامة قومية يفتقد إليها؟
كتبت في مقالة سابقة، على أثر إعلان ترامب قراره بنقل السفارة الى القدس، بأنّ ذلك لا يغيّر شيئاً من الواقع. فالقدس لم يبنها داود كما يدّعون، بل بناها اليبّوسيون قبل داود بأكثر من ألف سنة. وداود المزعوم أقامها عاصمة لمملكة إسرائيل الوهمية. فإنْ كانت تل أبيب هي العاصمة أو أية مدينة أو قرية أخرى، فهذا لا يغيّر الحقيقة الثابتة وهي أنّ مملكة إسرائيل القديمة والحديثة قامت بفعل احتلال أرض الغير، وفعل الاحتلال لا يدوم الى قيام الساعة، بل سيزول في الساعة التي نعي فيها وجودنا القومي، وندرك حقنا بالدفاع عن أرضنا بأنفسنا، وإنّها لساعة آتية لا محالة، طال الزمان أو قصر.