حكومة الحريري بين ابتزاز «الداخل» وانفجار «الخارج»
د. وفيق إبراهيم
يباشر سعد الحريري مرحلته لتشكيل الحكومة الجديدة، وسط سباق محموم بين قدرته على بناء تسويات لإرضاء قوى الداخل في مطالبها الوزارية «الشرهة» وبين تصعيد إقليمي يتدحرجُ نحو سلسلة حروب يعجز لبنان عن التخلص من تداعياتها.
أما العقوبات المفروضة في واشنطن والخليج على حزب الله «السياسي والعسكري»، فهي أشبه بهراوة يحملها لاعب «دولي إقليمي»، يختبئ خلف الحائط «اللبناني» باستعمالها عند الضرورة لتحسين مواقع حلفائه في لبنان. لكن الواضح حتى الآن، وجود ما يشبه الاتفاق الدولي والإقليمي غير المكتوب على تمرير تشكيل الحكومة بطريقة لا تتأثر فيها «كثيراً» بالعقوبات من جهة والتصعيد من جهة ثانية. فالقليل منهما حسب اعتقاد ملوك التحليل في حزب «المستقبل» بوسعه إنتاج حكومة يُمسك بها «السعد» ومعه أحلافه في الداخل والخارج.
هناك وجهة نظر ثانية تجزم أنّ الحلف السعودي ـ الأميركي يفكر بعمق أكثر من «فلاسفة الداخل»، معتقداً أنّ «الهدف اللبناني» من العقوبات ينحصر في استعمالها لموازنة صعود حلف المقاومة على أساس حكومة متعادلة تتساوى فيها القوى اللبنانية بواسطة نفوذ الدور الإقليمي ـ الدولي وليس بنتائج الانتخابات الأخيرة… لذلك فإن الهدف الأميركي من الحكومة الحريرية المرتقبة هي إجهاض محاولات حزب الله للإمساك بالسلطة التنفيذية بعد التجديد لحليفه نبيه بري في رئاسة السلطة التشريعية. فكيف يمكن السماح له بالإمساك بالسلطتين الأساسيتين في مرحلة تصعيد أميركي ـ سعودي يدأب على تجريد حزب الله من شرعياته القانونية والشعبية. ذلك أنّ استشعار هذا الخطر اميركياً وسعودياً تأكد أكثر في مقابلة تلفزيونية مع النائب شامل روكز صهر الرئيس عون والقائد السابق للمغاوير بإعلانه منذ ثلاثة أيام فقط أنّ دور حزب الله في جنوب لبنان أساسي في حمايته، وذلك حتى تسليح جيش لبناني يستطيع الدفاع عن البحر والبر، مضيفاً أنّ اختراق الطيران الإسرائيلي لأجواء لبنان يومياً والاعتداءات منها على سورية دليل على حاجة البلاد للدور المقاوم لحزب الله.
لذلك تبدو المرونة الأميركية ـ السعودية المتستّرة «بالصمت» والتغافل المقصود.. للزوم تمرير حكومة تُبقي على سياسات الحريرية السياسية في العبث المالي وتعطيل القرارات الوطنية بتحويلها «مسائل مذهبية» لإجهاضها نهائياً.
فهل تسبق الحلول الكفيلة باستيعاب عقد الداخل الصراع الإقليمي ـ الدولي؟
انتخاب الرئيس بري يُوحي بوجود تفاهماً بين القوى النيابية الأساسية التي تُمسك بالقدرة على تركيب تحالفات آنية ومستقبلية.. وهي التيار الوطني الحر، وثنائي أمل ـ حزب الله، وحزب المستقبل، إلى جانب قوى تتقن فن التموضع والانقلاب عليه عند الضرورة كالحزب التقدمي الاشتراكي.. وفئات تريد استغلال المرحلة للسطو على نفوذ جديد كحزب القوات اللبنانية. من دون نسيان كتل كثيرة تتحالف في ما بينها لتأمين مقاعد وزارية من خلال تحالفها مع الرئيس بري وحلف المقاومة كتيار المردة وفريق فريد هيكل الخازن ونجيب ميقاتي وميشال المر وفيصل كرامي وعبد الرحيم مراد وفؤاد مخزومي وعدنان طرابلسي وأسامة سعد وآخرين.
فتبدو رحلة الحريري صعبة على أساس تعذّر تأمين مقاعد وزارية لكل هؤلاء في حكومة من ثلاثين وزيراً. وهذا يفرض عودة «ملك السلفي» إلى الاستقواء بالقوى الكبرى الداخلية الجديدة بامتصاص نزاهة حلفائها.
إنّ الحديث عن حكومة ثلاثينية تسيطر عليها القوى الداخلية الكبرى مع السعي إلى تمثيل الكتل الصغيرة تتطلّب إتقاناً في قراءة موازين توزع النواب مع شيء من التضحية المقبولة. بناء عليه ترى جهات وازنة أنّ توزيع المقاعد الوزارية عاكس لانقسامات القوى النيابية. أما الترضيات على مستوى الإقليم فتأتي في مراحل لاحقة.
وبما أنّ الحصة الوزارية للمسلمين في حكومة ثلاثينية لن تتعدّى الـ15 وزيراً تنقسم بين ستة مقاعد سنية ومثلها للشيعة مع ثلاثة للدروز.
تتجزأ حصة السنة «علمياً» بين أربعة مقاعد للمستقبل ومقعدين وزاريين للنواب الذين اخترقوا لوائحه. أما بالنسبة للشيعة فإن فريقي أمل ـ وحزب الله يمسكان بكامل حصصها، لأنه يسيطر على 27 نائباً يشكلون كامل حصتهما في المجلس النيابي، لذلك لا شريك شيعياً ممكناً لهما، إلا بالاختراع ولا يبدو أنّ الفريقين راغبان بالتنويع في هذه المرحلة إلا إذا اقتضى الأمر أنّ تشمل حصة رئيس الجمهورية وزيرين: مسيحي ومسلم، أو يُضطّران إلى إسناد حقيبة لنائب من الأحزاب الوطنية والقومية كسالف الأيام.
وإذا كان التوزيع سهلاً عند الفريق الإسلامي، فإنه شديد الصعوبة مسيحياً.
هناك التيار الوطني الحر الذي يحقّ له بتسعة مقاعد وزارية استناداً إلى حجمه 29 نائباً وثلاثة لحزب القوات لن تقبل بها لغرور غير مبرر يركب رؤوس قادتها الذين يربطون بين حجمهم ودعمهم الإقليمي من السعوديين والأميركيين. وقد ينسحبون متذرّعين بالعقوبات الدولية على حزب الله إلى حدود الاستنجاد بها لتطيير تشكيل الحكومة.
أما بقية المقاعد فهي حق طبيعي لحلف المردة ـ الخازن – الأرمن – الأقليات.. وهكذا فبالشكر تدوم النِعم في لبنان لم يعدْله تشبيهٌ في مستويات الانحطاط الطائفي والمذهبي الدستوري الذي يحول دون تحوّل اللبنانيين «مواطنين» كحال معظم أبناء الدول.
يمكن بإيجاز التأكيد أنّ تحالف بري ـ باسيل – الحريري كفيل بإنجاز الجزء الداخلي من تشكيل الحكومة.. أما على مستوى الخارج فأمره منوط بمستويات التشاحن بين واشنطن وطهران والرياض ومدى الاحتمال في تطوّره حروباً كبيرة، قد تندلع على جبهات الجولان السوري المحتل، وفي الخليج بحرياً أو عند الشواطئ المتقابلة، هذا من دون استبعاد قصف جوي قد يشمل مراكز الدولة في إيران التي لن تتأخر في قصف مراكز إسرائيلية وأميركية وربما.. سعودية في حالة استهدافها.. فهل يبقى جنوب لبنان بمأمن في ضوء التقابل العسكري بين أقوى فريق مستهدَف من الجهة الأميركية ـ الإسرائيلية ـ السعودية وهو حزب الله وبين «إسرائيل» التي تجهّز قواتها لمثل هذا الاحتمال؟
ألا يدفع هذا التصعيد الفريق الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي إلى استبدال حالة «التغافل» المقصود في الوضع اللبناني إلى وضعية استعمال العقوبات الأميركية الخليجية ضد حزب الله، لمنع تشكيل حكومة في لبنان، ودفع الأوضاع فيه إلى حافة التفجير للمزيد من إرباك حزب الله؟
أما ما يُهدّئ من اندلاع الحروب فهو الضغط الأوروبي والروسي الذي لا يزال يبحث عن مخارج لحالة الاحتقان، مستنداً إلى الاستمرار في تأييد الاتفاق النووي مع إيران كناظم للعلاقات الدولية.
لبنان إذاً، في سباق بين نجاح قواه السياسية في تشكيل حكومة اتحاد وطني وبين احتمال اندلاع حروب إقليمية لن تستثني لبنان الذي قد يجد نفسه متورطاً في حرب تستهدف فيها «إسرائيل» كامل لبنان بغطاء من السعوديين والخليجيين الذين وجّهوا إلى حزب الله بجناحيه العسكري والسياسي، اتهامات بالإرهاب ورعايته.
فمَن يسبق؟
المتفائلون يرجّحون فكرة تشكيل الحكومة، لأنها لا تزال حتى الآن حاجة للداخل والإقليم و«الدولي».. ولأنهم يعرفون أيضاً أنّ حزب الله ليس حالة سطحية موجودة بالقوة المسلحة، بقدر ما أصبح حالة ثقافية تتجاوز الشيعة لتصيب قسماً محترماً من لبنانيين متمسّكين بأن العدو الأساسي لهم هو العدو الإسرائيلي وكل مَنْ يؤيّده دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً.