الخيانة ملح الدراما التجارية… والتصنّع خبزها المتكرّر
عبير حمدان
مخطئ من يظن أن صناعة الدراما لا تزدهر إلا حين ترتبط بمنطق استهلاكيّ غايته الربح على حساب الواقع والقيم والأخلاق. ويخطئ أيضاً من يهلّل لنصوص درامية ملحها الخيانة والعلاقات المشبوهة بحجّة أنّ القصص مقتبسة من الغرب. ويبقى السؤال: لماذا يصرّ صنّاع الدراما «الحديثة» على إلغاء الخصوصية التي يتّسم بها كل مجتمع، وهل الهدف تدمير الجانب الإيجابي المتبقي في هذا الشرق لتحقيق الربح المادي وحسب؟
لعلّ القصة أبعد من ذلك بكثير، حيث يصبح الفنّ سلاحاً يفتك بالمجتمع من الداخل فتأتي الأعمال الدرامية التي يتم بناء شخوصها في اتجاه واحد عنوانه «الخيانة» وتبريرها بمختلف الحجج، تارة بِاسم الحبّ، وطوراً بِاسم الظلم الاجتماعي الذي يدفع الفرد إلى بيع مبادئه من دون خجل، لا بل أنه يتباهى بتفوّقه لناحية التمادي في الخطأ، وقد يصبح بطلاً في نهاية المطاف.
في الدراما اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر يظهر الترف بشكل مبالغ فيه مع الكثير من التصنّع، وفقط في المسلسل اللبناني تكون البيوت فخمة والطرقات فارغة وكأنّ من يكتب الأعمال الدرامية اللبنانية ويُخرجها لا يعيش على هذا الكوكب. أضف إلى ذلك التكرار الذي يحكم هذه الأعمال حيث نجد دوماً البطلة التي يحبّها الجميع، وفي المقابل يكرهها الأشرار الذين يغارون من جمالها ومثاليتها، والبطل المتيّم بها والمرغوب من قبل الأخريات. وإذا سألنا صنّاع هذه الدراما عن التنوّع، يطالعونك بقصص مقاومة الاحتلال ولكن في زمن يسبق «سايكس ـ بيكو»، ولا يشير إلى ما فعله الاستعمار الفرنسيّ المسمّى «انتداباً» لناحية تقسيم البلاد وسرقتها.
والمضحك المبكي، هيئة هذه المقاومة التي تكون بمجملها مخملية، ويتقن شخوصها اللغات الأجنبية وتحديداً الفرنسية، والتي نراها من خلال حوارات إنشائية ركيكة وفارغة. ورغم كل ذلك، يصرّ «تجّار» الدراما على الإطالة والأجزاء ضمن فلك بلا مضمون، بل مجرّد استعراض سطحيّ قوامه إبراز جمال الأزياء والتسريحة والطبيعة الخلابة من دون تسمية المناطق طبعاً.
ولا تختلف الدراما المشتركة كثيراً إلا في التركيز على «الخيانة» الزوجية في مجملها، وحياة رجال الأعمال والمال في محاولة لخلق «مافيا» عربية في مواجهة المافيا الإيطالية مثلاً. وهنا نسأل: لو أنّ هذا المال العربي يوظّف بالشكل الصحيح، ألم يكن ليساهم في تغيير الواقع الاجتماعي، وبالتالي نخرج من دائرة الاستيراد والاستهلاك الرخيص ونعمل على تسليط الضوء على المشاكل الحقيقية في مجتمعنا الزاخر بالقصص التي تُغني مخيّلة أيّ كاتب يحترم عقول الناس وينقل واقعهم بإطار دراميّ متقن من دون إضافات و«بوتوكس»؟
لعلّ نجاح الدراما السورية المتّصلة بقضايا الناس بشكل مباشر أزعج تجّار هذا الزمن، فجهدوا لمقاطعتها، لكنهم لم ينجحوا في تغييبها. ويبقى العتاب على بعض النجوم السوريين الذين ركبوا موجة الاستعراض، لظنّهم أنّ النجومية في التكرار والسطحية. هؤلاء خلعوا عنهم إنجازاتهم وتاريخهم الفنّي، وغرقوا في مستنقع الربح السريع ولو على حساب المضمون، لتصبح الدراما بالنسبة إليهم مجرّد مادة تسويقية لا تقدّم ولا تؤخّر، بل تزيد إمعاناً في تخدير الأجيال لناحية تمرير الشوائب وتبريرها. ويصل الأمر إلى حدّ التعاطف مع «نجم» العمل ولو كان مثالاً اجتماعياً سيّئاً.
في المحصّلة، المطلوب من الفنّ بمختلف قطاعاته أن يكون مرآة تعكس خصوصية كلّ مجتمع. وعليه، يجب أن يأتي السياق الدرامي متناغماً مع البيئة التي ينتمي إليها من دون إغفال القضايا المصيرية المرتبطة بما نعيشه في هذا الشرق. وليس معيباً أن نشدّد على مفهوم الفكر المقاوم للغزو الثقافي الاستعماري الذي ينادي بالتطوّر والانفتاح ولو على حساب القيم والأخلاق. ومن الخطأ أن نُسقط نظرية المؤامرة من حساباتنا، إذ إنّ الفكر المعادي لن يتوقّف عند حدود سرقته ثرواتنا وتهشيمه حضارتنا، وسيستمر في التسلّل إلى العقول كلّما سنحت له الفرصة، تارة بهيئة موسيقية، وطوراً بدعم كتّاب ومخرجين لا يرون في التطبيع مع العدوّ أيّ مشكلة، وأحياناً بتمويل جزء كبير من البرامج الترفيهية، وأخيراً بجعل الأعمال الدرامية مادة مشوّهة لا تشبه إلا من يتاجر بها ويستفيد من مردودها بشكل مباشر.