«رصاص في حمص القديمة»… لم يكن طائشاً!
محمد رستم
لا بدّ من التنويه أولاً إلى أنّه ليس من السهولة بمكان أن تنسج رواية على خلفية أحداث افتعلها الإرهابيون وتقشعرّ لهولها الأبدان، من دون أن يكون المنجز رواية رعب. فليس سهلاً أن تحقّق البهائيّة الجماليّة من الوجع.
ومن العنونة نبدأ، باعتبارها تمثّل ثيمة دلاليّة تلخّص المحاور الأهم في المرويّة، «رصاص في حمص القديمة»، دالّ رصاص مادة جامدة وجاء نكرة يضرب في سماء المجهول فقد يكون رصاصاً طائشاً… بل لعلّه ما يطلق في الأفراح . وفي كل الأحوال يبقى رصاصاً حيادياً لا يشي في هذا التركيب بجهة مصدره.
وفي شبه الجملة «في حمص القديمة» تحوّل حرف الجر «في» من رابطة لغويّة محضة إلى أداة تشي بالظرفيّة المكانيّة، وحضور الجغرافيا هنا إنما تجيير لحيثيّات المكان وإرضاخه لسلطة السرد الروائي، بما ينسجم وحقائق الأحداث التاريخية. مع أنّ معاناة الأحياء الأخرى «بل إنّ مكابدة السوريين من الإرهاب على امتداد جغرافيتهم» كانت أكثر فظاعة.
تدخل الرواية أدب الحرب من بابه العالي، ملتزمة جهة الضوء مشيرة بأصابع الاتّهام إلى قطعان الظلام. فقد جسدت الهم الذي تحمله شواغل الأديب من خلال ثيمة نبذ العنف والدعوة إلى التلاحم الاجتماعي وإدانة التطرف والخيانة.
ومن حصاد الشر وثمار الجريمة المرّة يبدأ الكاتب عيسى إسماعيل روايته بتقنية الخطف خلفاً، «فإيمان تحمل طفلها وتدخل به إلى مقر الإيواء، حيث تقصّ على أمها حكاية اغتصابها من قبل راكان ابن جارهم واثنين من معاونيه وساري ابنها هو ثمرة ذلك الاغتصاب». في حين كانت «إيمان» تنتظر تخرجها وزميلها «عبدو» من الجامعة حيث اتفقا على الزواج.
لعلّ هذا هو المحور الأهم في المروية، وهنا حاول الكاتب أن يقارب بين سجلّ الحرب وموضوعة الحب والغزل، لينشئ نغماً عشقياً وخيطاً من الحب يبدأ من فترة ما قبل الحرب لينتهي بعدها.
ولهذا، كان همّ الكاتب منصبّاً على فضح جرائم الإرهاب والتطرف وتعرية من تظاهر بالإيمان فصور الشخصيات السلبيّة «بلال الدهن.. راكان» وبين مستواهم الثقافي والأخلاقي، ولكن يا بني أنت وابني راكان صديقان وقد تركت المدرسة في الصف الخامس، وأنا ضبطتكما تشربان الخمر ودخلتما السجن بتهمة السرقة .
وبيد الحرف يميط الكاتب اللثام عن وجوه فاقدي الأخلاق الذين اعتلوا مركب الخيانة ومضوا على قارعة الضياع والانحراف والجريمة، يغرسون خنجر الحقد في خاصرة الوطن الأمّ سورية. فصاحب السوابق «بلال» أضحى إماماً للجامع ومفتياً للعصابة التي تسيطر على الحيّ ص24 ، ولعل ما اقترفه من السطو على المرأة الأربعينية واغتصابها يشكّل قدوة لغيره من الإرهابيين راكان ومساعديه .
إنّهم يعانون من عضال الانحراف والجريمة فباتوا يتخبطون في أوحال الشرور والشهوات الضالة.. وبات الشيخ الخالدي يفتي لهم بفعل كل ما يخطر ببالهم من قتل واغتصاب وسلب ونهب ص54 ، هكذا كان يسجل الأديب عيسى اسماعيل على رخام الدهر.
أنّه ذات مؤامرة استباحت قداسة الوطن ذئاب الخيانة فيصور أحد غربان الإرهاب إذ يقول أخرجوا الطناجر.. ودقوا عليها وكبّروا … اقتلوا.. دمّروا.. اسبوا نساءهم.. كفرة… ، وعلى الإثر عاث الإرهاب الأسود في شرايين السوريين فساداً، فزرع الأحقاد المستنبطة من فطريات جهل العصور السالفة. أحالوا العذارى سبايا وأغرقوا تضاريس الوطن بدم الضحايا وبات الآهلون الواقعون تحت رحمة سيف الإرهاب في حمص القديمة ، يكرزون الآه بمعمودية الدمع.
إذ كيف لهم أن يزيحوا صخرة الآلام عن صدورهم ويطردوا القهر الذي تعنكب في قلوبهم، وبخاصة بعد أن باتت شعارات الإرهابيين تلوح واضحة على جدران البيوت المسيحيون إلى بيروت والباقي على التابوت .
لقد وضع الكاتب مبضع التشخيص فوق آه الوجع فنقل بأمانة ما تناهى إلى سمعه من فواجع الأحداث بعد أن باتت المواجع تتسكع على الأرصفة وتستوطن فضاءات الروح في حمص القديمة .
فينقل كشهادات لأشخاص من قلب الحدث ص13 ، «لقد شاهدت بأمّ عيني الإرهابيين يطلقون النار بدم بارد على رؤوس الناس».
ومع تصاعد الصفع اليومي للأحداث الإرهابية المؤلمة يأتي اغتيال الأب فرانسيس الذي يعتبر بحق مثالا للإنسانية والود ومحبة ومساعدة الآخر.
ولا يفوت الكاتب أن يشير إلى أساليب الإرهاب المضلل إذ عمدوا إلى إلصاق ما يرتكبون من جرائم بالحكومة، مقتل أبي راكان فضح ذلك .
ووثق الكاتب أن أموال المؤامرة تأتي من الخارج هذه الأموال تأتي من بلاد براً.. الأموال التي يحكي عنها بلال ص22 .
وواضح أن الأديب عيسى اسماعيل يعرض هذه الجرائم والموبقات ليسجل نقطة في أرشيف الضمير الإنساني وليوثق على رخام الدهر.. أن هذا الرصاص إنما هو ضوضاء القلوب الحاقدة التي جرفها تيار التطرف فأخمدت في داخلها صوت الفطرة ونواميس الاعتدال بعد أن تشبعت بفكر العتمة الطالع من كهوف الظلام فعاثت قتلاً وتدميراً ورسمت دوائر الموت في كل مكان.
ويعرض الكاتب الحدث في سياقه الفني بأسلوب ينضح براءة وصدقاً وعفوية من دون مساحيق ومثل هذا يؤكد واقعية الحدث، أنا أم راكان البراك.. بيتنا في آخر شارع الأظن.. هل تعرف يا أخي شيئاً عن ابني راكان؟، أجاب: أليس هو ابن بائع المازوت أبو راكان.. خرج مع المسلحين وهو أحد قادتهم.. ابنك مجرم أذاقنا مع عصابته المرّ ، كما أن ذكر أسماء أسر. الفقش. خزام. نقرور. الشيخ بلال وأحياء كرم الشامي. شارع الأظن. شارع الحميدية. عكرمة الجديدة . يزيد من قناعة المتلقي بواقعية الحدث والحدوتة في الرواية بسيطة، اغتصاب إيمان من قبل ابن جارهم راكان واثنين من معاونيه وإنجابها للمولود ساري ، ووصول علاقتها بعبود إلى مفترق طرق.. لكن الكاتب روى على هامش هذه القصة عدة حكايا صغيرة يجمعها سيف الإرهاب وزمكانية الحدث، لكن ذلك لم يرتقِ بالقصة إلى مصاف الرواية.
ويأتي المولود ساري مع كل ما يحمله من براءة الطفولة ، كمدلول رمزي على ما أنجبته المؤامرة من ويلات دمار.. تهجير.. يتامى.. أرامل.. أطفال مجهولي النسب بسبب جهاد النكاح وغيره .
ولعل الكاتب تقصّد تسميته بساري أي من يمشي ليلاً ، وكأنه يشير إلى أنه ابن الليل.
لقد ظل عبدو يمتطي حلم اللقاء بإيمان طيلة احتجازها في حمص القديمة. لكن الكاتب ترك نهاية لقائهما مفتوحة، فلم يلمّح إلى أنّ عبدو وإيمان سيجتمعان تحت سقف واحد ومع ذلك ورغم سوداوية الصورة المظهرة للواقع فقد ترك الباب مواربا لاحتضان بذور الأمل وتوليد براعم جديدة لحياة أفضل.
وقد اعتمد الكاتب الواقعية الوصفية في منجز يتّكئ على وسادة التوثيق حيث لعب الكاتب دور الرائي الراصد في قصة تسجيلية بأسلوب سردي لاهث وقصير النفس وبتراكيب سلسة. وقد اعتمد الحوار في نقل الكثير من المواقف وبدا الهدف الإشاري واضحاً من ثنايا الحروف أنا متأكد أنّ سورية ستعود أجمل مما كانت .
وكنت أتمنى ألّا يقع الكاتب في فخ مصطلح الحارة ، هذا المصطلح الذي يضيّق الانتماء كما مسلسل المؤامرة باب الحارة .
أخيراً، لا بدّ من التنويه إلى أنّ المنجز جاء كقذيفة من عيار التدمير الشامل لكل أضاليل أفاعي الشر المتربصين بالوطن المتسامي نحو الضياء.. وعلى هامش القصة يتضح كيف يهزم موطن النور فطريات الظلام وكيف يأتي رجال الحق رشقة نور على ظلال الليل، بعد أن تأبطوا الوطن قرآن قداسة وائتزروا الشهادة جسر عبور. فتأكّد الإرهابيون وداعموهم أنّهم ليسوا أكثر من فقاعة كاذبة وأنّهم يخوضون في بحيرة المستحيل فبوصلتهم خاوية وسمتهم الهباء.. وبدت صفرة الخريف تلوح في أفعالهم وانكشفت كذبة ربيعهم الذي يقوم على بحار الدم واقتراف المحرّمات.
كاتب سوري