«العالم حزمة خيالات» للشاعرة التونسية أمامة الزاير… قصائد مربوطة بشغف واحد
أمين الديب
قرأتُ ما سمّته الشاعرة «إهداء ثانٍ» مرّتين. تخيّلتها كيف أقفلت الباب والنوافذ، وأسدلت الستائر، جلست على كرسي أمام طاولتها المبعثرة، أغمضت عينيها، استحضرت وحيها، أطلّت على السائد تصفعه حدثاً حدثاً، بعثرته كي يندثر هذا الفراغ، ووصفته، بأنه جبّانة بين قريتين تستعطف المّارين لأجل فاتحة. ثم أعادت صوغ الكون.
لا شك في أن المدخل النقدي لديوان «العالم حزمة خيالات» وعر وشاقّ، حيث لا يمكن تصنيفه واقتفاء ملامحه من خلال المدارس النقدية السائدة، فالنصّ لدى الشاعرة التونسية أمامة الزاير سرديّ وإبداعي في آن، سهل وممتنع، بسيط ومتداخل، عدميّ وثوريّ، مسطّح ودائريّ، قصائد متناثرة ولكنها مربوطة بشغف واحد.
أعترف أنني بذلت جهداً لم أتوقّعه، لقد واجهت شاعرة كنت أبحث عنها، شاعرة تبني على ركام السائد شكلاً ومحتوى تجاوزيين، فهي لا تفسر الواقع إلا لتخرج عنه، بل أن رفضها للواقع كان دافع للكتابة عنه وتجاوزه، لخلق واقع يستوطن أحلامها ويقض مضاجعها، لذلك جاءت نصوصها متعارضة مع الأشكال التعبيرية السائدة ومحتوياها وطرق إنتاجها ومعاييرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومتناقضة مع الايديولوجية التقليدية، وهذا ما حتّم عليها الانفصال بهدف النهوض، عن الكتابة التقليدية. لقد قطعت الشاعرة حبل السّرة بينها وبين الراكد من الإنتاج الأدبي، واستدارت بحركة انفصالية إبداعية، تطلّ على المشهدية الشعرية بروح تائقة للتحرّر من السكون الارض عكّاز عجوز نسيت كيف تمشي ، في بيانها الأول تتمرّد على السائد، لن ندخل حيّز الكادر ، النصّ عندها خروج الشكل على الشكل، وكرة زجاج قابلة للكسر في أي لحظة تجاوز، تتأتى عن ابتكار جديد لمحتوى الحياة والكون والفن والجمال، فإذا كان النصّ عندها قدّاس في حضرة الجنون، فجنونها هذا أطلق فهماً جديداً للنص الشعري، حيث يصبح الشكل والمحتوى هما المضمون الثوري الجديد، فيشكل هذا الواقع الجديد دافعاً حضارياً يؤسس لمفاهيم السياسة والإقتصاد. وهكذا يتبدّى الفعل الشعري بمثابة إعلان ثوري تغييري ينطق بِاسم كل التائقين إلى تبديل الراهن السائد، عبر طرحها لغة رمزية إيحائية، وليس بالضرورة أن يكون المتلقي جمهوراً كمياً، بقدرما هو متلقي نوعي قادر أن يتجاوز اللغة النمطية المدجنة بالماضي المستتب في مراوحته وغير القادر على الخروج من بؤرة اللاهوت والمقدس.
أمامة الزاير حاولت في ديوانها أن تدفع الرغبة الفردية لتنمو في الرغبة الثورية الجمعية، بهدف تفكيك الواقع وتجاوزه إلى واقع يليق بمخيلة إبداعية ترى إلى الحياة رقيها في تبديل قيمها ومثلها العليا وغاياتها وأهدافها. إنها تدفع بإتجاه فهم مغاير للحياة إنها تتطلع إلى المستقبل وقوته الدافعة عبر الإبداع القادر على إعادة صوغ الواقع بواقع يضاهيه عمقاً وحيوية إنسانية. وليس سوى الإبداع ما يؤثر في مسار الزمن العدمي، ويخلق أزماناً حيوية تعيد البث والروح القادرة في كثافة كينونتها على خلق حياة ومفاهيم شفافة إلى حدّ بلوغ الصيرورة.
لقد رمت الشاعرة أمامة العربي الزاير صخراً في في ركود السائد، على نيّة أن تتحول حزمة الخيالات إلى واقع جديد ينبت من ضراوة الوجع القابع في الكيس الاسود، تماماً كما يتحول الخيال العلمي إلى واقع جديد يطبع حياة الانسان بطابعة المتجدد.
قد ينطبق على نصوص الشاعرة ما قاله راسين: «لا أفكر بشكل أفضل مما يفكّرون، لكنني أكتب بشكل أفضل ممّا يكتبون». ربما أرادت أن ترعب النيام، وهذا ما حققه الديوان.
ففي قصيدة «مقصّ»، انقضاض شرس على الذين ينظرون إلى المستقبل من وجهة نظر الماضي، فجعلت من كلامها حدّاً فاصلاً بين خيارين، البقاء في الماضي موت، والانبعاث في المستقبل حياة. صحيح أن الشاعرة تستقطب إلى ذاكرتها ثقافة شعراء محليين وعالميين، إنما لتصنع منهم شواهد ثلاثية الأبعاد، لوقائع معاشة في تونس وأمكنتها التفصيلية وساحاتها ومقاهيها وطرقاتها، المكان القابع في زمان، ترتشد بطاقاتها كافة، لتولد ثقافة جديدة وزماناً جديداً تزرعهما في الوجدان الوطني كحالة إستباقية لموت يعشش في الذاكرة المسلوبة على قارعة العالم المقلوب في كأسها، هذا العالم.. علبة صمغ لإخراس هذا النص ، فالحياة عند الشاعرة في مكان آخر، المكان المتوخى لتحدث فيه أحلامنا، لتتجسد كما هو مناقض لصيغتي الحاضر والماضي وقطع الطريق على إمكانية تسربهما إلى المستقبل كي لا يتعمم الموت الحضاري الانساني بين كفي عرافة أو قارئة فنجان أو أنثى تتمايل فجراً عند باب الحديقة تتلتّم بالغمام وتطلق من كفها أسراب الخنازير البرية.
أمامة الزاير هذه الشاعرة الخطيرة، لم تفتعل الأحداث والوقائع، لم تبتكر هيولى لا يمكن إدراك كنهها، بل أن نصوصها لم تكتف بكتابة الواقع إنما تجاوزته لتخلق واقعاً مستقبلياً حيوياً ومتحركاً، لقد تركت الباب مشرعاً من دون أن تضفي عليه شكلاً ناجزاً معلباً، وكأنها تدرك أن ما نعتقده نهائي هو بحد ذاته إفراغ الإنسان من إنسانيته، أي تشييئه، لقد حمّلت نصوصها منطلقات فكرية توحي باستمرار الإبداع لقتل الموت، إنها من دون شك إبنة الحياة التي تسعى إلى تفكيك رموزها اللانهائية.
لذلك، لا يمكن للنقد مع أمامة الزاير أن يعمل على مطابقة النص مع الواقع، من دون أن يستنبط الاستحالة بين الإبداع المتفجر من الواقع والواقع نفسه. بل لا بدّ أن يلحظ ويعتني بتفجر الأشكال أو بالدلالة لظاهرة تجدد الشكل، وبالنواحي الروحية في شعرها، واستنطاق المكبوت عند الشاعرة وتجلياته الرمزية خاصة في ملامحه الدينية والنفسية والتي تشكل حيزاً هاماً في القصيدة.
لقد أدهشتني معظم قصائدها بنسبية الاستقلالية الشعرية عن المعايير المجتمعية السائدة وتغيراتها الضرورية. وحركية النص. لقد قدّمت الشاعرة بنصوصها دينامية تنقض ما كان يعتبره النقد حيوية منتهية حين الفروغ من كتابته والذي لم يكن ينظر اليه قط بأنه مشروعاً مستقبلياً، لعدم قدرة النقد على الانفتاح على القارئ المقبل.
بالاستنتاج، نحن أمام ديوان تأسيسيّ لمرحلة مقبلة قد تشهد حراكاً تجاوزياً بالمفاهيم والنظرة إلى الحياة. إن نصوص الديوان تشكل منصات إنطلاق بحاجة إلى الكثير من التمحيص لغناها ولبعد مداركها، فهذه الحزمة من الخيالات فتحت نافذة، بل نوافذ جديرة برؤاها أن تستحصل على حقها الكامل في النقد العلمي الموضوعي، وفي هذه العجالة حاولت أن أضيء على حالة شعرية بالغة الحضور والتأثير على الساحة الشعرية التي يجب أن تبقى مفتوحة على الاحتمالات كافة.
الناقد والشاعر اللبناني
شاعر وناقد