اُحجز مقعدك!

اُحجز مقعدك!

يُحكى أنّ ديكاً كان يؤذّن للفجر كلّ يوم، فقال له صاحبه: أيها الديك لا تؤذّن وإلّا ذبحتك! قال مولانا الديك في نفسه: الضرورات تبيح المحظورات، ومن السياسة الشرعيّة أن أتنازل قليلاً حتى أحافظ على نفسي، وعلى كلّ حال هناك ديوك غيرك سوف ترفع الآذان!

وبعد أسبوع، جاء صاحب الديك وقال له: لا يكفي ألّا تؤذّن، إن لم «تقاقِ» كالدجاج ذبحتُك! فعاد الديك وقال في نفسه: الضرورات تبيح المحظورات، ومن السياسة الشرعيّة أن أنحني قليلاً حتّى تمرّ العاصفة، ولا بأس ببعض «القأقأة». وبالفعل بدأ مولانا الديك «يُقاقي»!

وبعد أسبوع جاء صاحب الديك وقال له: الآن، إمّا أن تبيض كالدجاج أو ذبحتك! عندئذٍ، بكى الديك وقال: ليتني مُتّ وأنا أؤذّن ولا عشت وأنا أحاول أن أبيض!

نعم، التنازل يبدأ بخطوة، وبعد ذلك يستحيل عليك الرجوع، وستكمل الطريق مطأطئاً رأسك لأنك انحنيت حيث كان يجب أن تنتصب كالجبل، وكلّما عظمت مسؤولياتك كان وقوفك واجباً، وثباتك فريضة. وما يقبل من العوام، لا يقبل من العلماء والمفكّرين والأدباء، لأنهم قدوات، والناس ينظرون إليهم بعين الإجلال. والعلماء في الرخاء سواء، لا يفضّل أحدهم الآخر إلّا بمقدار ما يحفظ ويستنبط ويجتهد، فإذا جاءت المِحن تباينوا!

يأتي من يخبرنا ممّن ملؤوا جيوبه قبل ملء تلافيف مخيخه بما يرغبون من الكلام، ويقول إنّ دجاج الوطنية طريقنا إلى الجنة، فالحكواتي مدفوع الأجر يمثّل دور مولانا الديك، وفي كل ظهور له تتباين أقواله وما تحسبه إلّا كشجرة الدُّباء التي نمت سريعاً فغرّها نموّها حتى حسبت نفسها ندّاً للصنوبرة! فلمّا أتت ريح الخريف، بقيت الصنوبرة شامخة بقدر ما كانت تغرس جذورها عميقاً في الأرض، أمّا شجرة الدُّباء فسقطت سقوطاً مدوّياً… حتماً هذه هي نتيجة الصعود الأجوف.

والمنقصة والسُبّة أن يحدّثنا عن دجاج الوطنية بالحماسة نفسها، من يحدّثنا فيه عن غزوة الخندق؟

الفيلسوف الألماني جورج هيغل قال: «إنّ الأبقار كلّها تبدو سوداء في الظلام». فمنهج التطويع والتضليل والأدلجة المُفرِط أدّى بهم أن يجرّعونا الإغراق في الوطنية العائمة من خلال خطبهم الرنانة وعباراتهم الطنانة ولم يعلموا أنّ في هذه الظروف حالكة السواد الخسائر المادية والمعنوية هي القاسم المشترك بين الأطراف كلّها. ففي أيام الطقس الجميل لا يحتاج الناس معطفاً، ولكن إذا تداعت العواصف هرعوا إلى معاطفهم. والعلماء والفقهاء معاطف الناس! ومسؤولياتهم أن يدثّروهم ولا يتركوهم عرضة للارتجاف مهما كلّف الامر. نريد أن نحتمي بكم، ألّا نرتجف لأن أحدكم قرر أن يكفّ عن الأذان لينجو بنفسه، وعلّق الأمل على ديك آخر.

يقول لكم عمر المختار الذي وقف في وجه إيطاليا كلّها من المهد حتّى حبل المشنقة: «إياك أن تنحني مهما كان الأمر ضرورياً، فربما لا تواتيك اللحظة لترفع رأسك مجدّداً!».

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى