في استراتيجية «إخلاء الجغرافيا» والصمود السوري
خالد العبّود
أمين سرّ مجلس الشعب السوري
لم يستطع كثيرون فهم حقيقة المواجهة التي تمّت على الأرض السورية، من خلال العدوان الذي قادته الولايات المتحدة على محور: طهران، دمشق، المقاومة، كون أنّ مفاهيم جديدة فرضتها طبيعة الأهداف ذاتها، فكان لا بدّ من أن تُستعمل في العدوان من أجل الوصول إلى تلك الأهداف، كون أنّ احتمال الهزيمة لم يكن وارداً على الإطلاق، وأنّ العدوان سوف يأتي بنتائجه لصالح الحلف الذي تشكل من خلاله.
وبالمقابل فقد أعدت الدولة السورية استراتيجية صمودها بعقل باهر ومتقدم جداً، ويعتمد على أفضل نظريات المعارك الحديثة المركبة، والتي تقوم على رئيسيات هامة في العسكرة والأمن والسياسة، وكانت جميعها تحتاج أعصاباً فذّة، كما أنّها تحتاج قدرة كبيرة على الصبر وعلى التحمل في آن معاً.
وعلى هذا الأساس وجدنا أنّ هناك من أخذته اللحظة بمنجزها الآني الذي ظهرته وسائل الإعلام، وقدمته على أنّه منجز هام في طبيعة الأهداف التي وضعت من قبل حلف العدوان، فما كان من هذا الحلف إلا البناء على ما تم إنجازه في سياق اللحظة، في حين أنّ سياق اللحظة لم يكن نتيجة تقدم أدوات حلف العدوان بالمعنى الحقيقي للتقدم والنجاح، بمقدار ما كانت خطوة تؤديها أدوات المواجهة للعدوان في سبيل الوصول إلى أهداف مختلفة تماماً عمّا كانت تظن أطراف الحلفاء أنّها وصلت إليه.
كانت تدرك الدولة السورية أنّها تخوض معركة ذات أهداف مركبة وعميقة، فالجغرافيا بالنسبة لديها لم تكن أهم من الإنسان، وعلى هذا الأساس كانت قد تنازلت أو دفعت باتجاه التنازل عن أجزاء من جغرافيا الوطن، عندما كانت ترى أن هناك «حواضن» شعبية لم تدرك حقيقة الحاصل، وهي، أي هذه «الحواضن»، تأثرت بخطاب افتراضي يقوم على رئيسيات غرائزية لم يكن بمقدورها التعامل معه إلا بالطريقة التي تقدم على أساسها، كون أنّ طاقة الدفع به كانت كبيرة جداً، لهذا فإن أجزاء من الوطن السوري كانت تقطنها «حواضن» تأثرت بخطاب «ثوريّ» تم التسويق له، فكان لا بد من العمل من قبل الدولة السورية على إخلاء هذه الجغرافيا من أجل أن تتأكد هذه «الحواضن» وتتيقن وتكشف طبيعة وحقيقة الأهداف التي تتطلع لها روافع هذه «الثورة»!!..
من هنا نستطيع القول أن السيطرة على الجغرافيا من قبل أدوات حلف العدوان لم تكن سيطرة حقيقية، في حين أنّ حلف العدوان وأدواته اعتبروا أن هذه السيطرة حقيقية، وحاولوا أن يصرفوها سياسياً وأمنياً، لكنّها لم تصرف، لماذا، لأن السيطرة على الجغرافيا لم تكن نتيجة وهن أو ضعف في جسد القوات المسلحة السورية، بمقدار ما كانت طريقة في الانسحاب من الجغرافيا موقتاً كي تختبر بعض «الحواضن» خطاب أصحاب «الثورة»، وهذا حصل في مساحات واسعة من جغرافيا الوطن السوري، والنتيجة كانت باهرة وساحقة، كون أنّ مزاجاً عاماً واسعاً، أضحى في مكان جديد تماماً، و«الحواضن» التي عوّل عليها الآخرون أدركت أنّ الفعل الحاصل في الوطن السوري لا يرقى لأدنى مستويات الثورة أو المطالب الشعبية، وخلصت إلى إنّه عمل دولي يرمي إلى إنهاء الدولة السورية وتفتيتها، على رغم الرؤى والمواقف السياسية لكثير من السوريين.
الجغرافيا بهذا المعنى كانت هدفاً بالنسبة لأدوات العدوان ولأصحابه أيضاً، في حين أنّ الدولة والقيادة السورية كانت ترمي إلى أهداف أخرى مختلفة تماماً، كثيرون لم ينتبهوا لهذا المعنى، فبدا أنّ السيطرة على أجزاء من جغرافيا الوطن السوري والتي تعتبر أهدافاً رئيسية للعدوان قد تحققت، بالتالي فإن انهيار القوات المسلحة أضحى وشيكاً، في حين أنّ القوات المسلحة كانت تدير معركتها بكفاءة عالية جداً، وهي تدرك كيف تخلي المكان، وكم ستتركه خارج سيطرتها، وتدرك جيداً أنّها بانتظار أمر عمليات بإعادة السيطرة عليه، بالتالي فإن مفهوم «الحسم العسكري» الذي تغنى به كثيرون، أو طالب به الكثيرون، لم يكن معنى حقيقياً أو عنواناً حقيقياً بالنسبة للقوات المسلحة ولقياداتها، بمقدار ما كانت العملية برمتها هي استراتيجية مناورة لإيقاع أدوات العدوان، كي تكون مكشوفة أمام أهدافها أكثر فأكثر.
لا نعتقد أنّ «الحسم العسكري» أمر مهم بالنسبة للقيادة السورية، كما أننا لا نعتقد أنّه ملحاح حتى اللحظة، غير أن هناك رؤوساً ومفاصل كانت تتحول بفضل استراتيجية «إخلاء الجغرافيا» في بعض الأحيان إلى رؤوس ضارة بخريطة توزع القوات المسلحة السورية، أو كانت تبني عليها أدوات العدوان مدخل تأثير أو نافذة قوة من أجل التأثير على طاقة النار للقوات المسلحة السورية، كما كانت تتحوّل بعض هذه المناطق «المخلاة» بفضل استغلال أطراف العدوان لها إلى مفاتيح تأثير على وحدة جغرافيا الوطن السوري، فكان لا بد من التعامل معها مباشرة بعيداً عن حسابات لها علاقة بالعناوين الذي ذكرناه آنفا!!..
لقد كانت أهداف العدوان من خلال أدواته واضحة في عدّة مستويات، عسكرية وسياسية وأمنية واجتماعية، وجميعها سقطت بفضل استراتيجية مواجهة العدوان التي وضعتها القيادة السورية، فلا السيطرة على الجغرافيا كانت قد صرفت سياسياً أو أمنياً، ولا القدرة على السيطرة تحولت إلى طاقة قدرة على التحكم بميدان المعركة العسكرية، كي يكون هناك سحب لها في منجز سياسي يسجل لها، ولا السيطرة على الجغرافيا أيضاً أفادت في تظهير أو تسويق مشروع إيجابي لما كان يقدّم على أنّه رافعة «ثورة»!!..
إنّ استراتيجية «إخلاء الجغرافيا» ساهمت في الكشف الحقيقي عن ماهية «الثورة»، وعن رافعتها التي قدمت على أنّها «دفقة تاريخية معرفية سياسية ثقافية تقودها نخب سورية»، كما ساهمت أيضاً في الكشف عن العلاقة الرئيسية التي تربط هذه الأدوات مع قوى إقليمية وعربية، وبخاصة علاقتها مع كيان الاحتلال الصهيوني، وساهمت في إظهار حقيقة هذه الأدوات التي أضحت تمثل «لمَمَاً» كونياً للعدوان على السوريين!!..