رسائل الأسد…
جمال الكندي
رسم حديث الرئيس بشار الأسد الأخير مع قناة «روسيا اليوم» استراتيجية عسكرية وسياسية جديدة للحكومة السورية، هذه الاستراتيجية ولدت من رحم الانتصارات السورية في الغوطة الشرقية، وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي.
كلام الرئيس السوري كان يحمل رسائل لجهات ثلاث التي تدعم المسلحين، في جنوب سورية، وشمال شرق سورية، وشمال سوريا وهي: الإسرائيليون، والأميركان، والأتراك.
مقابلة الرئيس بشار الأسد تعدّ حسب تحليل كثير من المعنيين بالقضية السورية علامة فارقة في بلورة استرتيجية التعامل مع مسلحي الجبهات الحدودية الثلاث، ومن يدعمهم، فقد رسمت معادلة جديدة مفادها: لا نقبل أيّ كيان منفصل عن الحكومة المركزية في دمشق، وهناك طريقتان للعودة إلى الوطن: إما التفاوض والمصالحات، أو عن طريق القوة العسكرية، وسيناريو الغوطة الشرقية وجنوب دمشق شاهد عيان على ذلك.
فبعد اقتلاع الجيش السوري الخنجر المغروس في خاصرة دمشق، وإنهاء المسلحين المدعومين خليجياً في غوطة دمشق وجنوبها، بقيت ثلاث مناطق سورية مهمة تنتظر التسوية أو التحرير.
هذه المناطق ذات أبعاد سياسية، ومرتبطة بأجندات أميركية وإسرائيلية وتركية فهي تمسك بحدود سورية من الجنوب والشمال والشرق، والخوض في هذه المعارك لا يتطلب القوة العسكرية فقط، ولكن هنالك مبدأ الاحتواء والتشابك في منطقة، وفي منطقة أخرى يكون الاشتباك العسكرية هو العنوان البارز.
المناطق الثلاث هي جنوب سورية والمسلحون فيها لهم ارتباط بالكيان الصهيوني، ومنطقة شمال شرق سورية المتمثلة بقوات سورية الديمقراطية التي تساندها أميركا وتسعى لإيجاد خصوصية كردية بعيدة عن الدولة المركزية، وشمال سورية في مدينة إدلب وريفها وهم المسلحون المدعومون من تركيا.
جاءت رسائل الأسد في مقابلته مع قناة «روسيا اليوم» فصعّدت اللهجة ضدّ قوات سورية الديمقراطية ذراع الأكراد في المنطقة، وهذا يعني الصدام المباشر مع حليفها الأميركي وعدم الاكتراث بأيّ خطوط حمراء أميركية على تحرك الجيش السوري.
خطاب الأسد الأخير كان مأخوذاً بزخم انتصارات الغوطة الشرقية، فما حدث فيها هدم مشروعاً كبيراً لتقسيم سورية وإضعافها، وهذا ما يدركه الأميركي جيداً وأربك حساباته في ريف دمشق وجنوب سورية، وتحسّس بهذا الخطاب بإمكانية فقدان الأراضي التي يمسك بها الكردي تحت المظلة الأميركية.
ثلاث مناطق أصبحت في الميزان العسكري والسياسي، وهنا تأتي السياسة والقوة العسكرية في التعاطي مع هذه المناطق، والملاحظ أنّ رسالة الأسد الموجهة لقوات سورية الديمقراطية كانت شديدة اللهجة حيث إنها لم تخش الصدام مع أميركا، وبالتالي فهي ضربة في المكوّن المسلح الأقوى والمدعوم أميركياً، ليحسب مسلحو جنوب سورية وشمالها ما سيحصل لهم.
هي استراتيجية ذكية ومدروسة من قبل الرئيس الأسد، لذلك كانت مقابلته مهمة ورسمت خارطة العمل العسكري المقبل للدولة السورية.
المعادلة الجديدة في الجنوب السوري تبدأ بخروج الأميركي من قاعدة التنف، وهذا ما قاله وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحافي الأخير حينما سئل عن جنوب سورية، وهل هنالك صفقة بخروج المسلحين المدعومين من الكيان الصهيوني خاصة في محافظة القنيطرة؟ أجاب بأن «لا اتفاق قبل خروج الأميركي من التنف» ، والمعروف أنّ هذه القاعدة هي أهمّ قاعدة أميركية في سورية فهي تقع في المثلث الحدوي السورية العراقية الأردني، وتلعب دوراً مشبوهاً في دعم مسلحي داعش وغيرهم .
إنّ التوجه العسكري السوري في الجنوب له سيناريوان إما بعقد اتفاق يقضي بسحب جميع المسلحين من الجنوب ونشر الجيش السوري في البلدات التي يسيطر عليها المسلحون ورجوع قوات الأندوف التي تمثل الخط العازل بين الجولان المحرّر والمحتلّ، مقابل سحب عناصر حزب الله وقوات الحرس الثوري الإيراني من المنطقة، وهذا الاتفاق سيكون برعاية روسية أميركية، وإذا فشل الاتفاق فسيرى الإسرائيليون جنود حزب الله وغيرهم يقاتلون على حدود الجولان المحتلّ.
أما معادلة شمال شرق سورية، فتختلف واختلافها يكمن في وجود المكون الكردي محتمياً بأميركا فهي تحاول خلق فدرالية كردية في قلب الدولة السورية، ولكن هنالك الحليف الآخر لأميركا وهو التركي وهنا يكمن التناقض بين حليف لقوتين تتقاتلان في جغرافية واحدة.
السؤال المطروح: إذا قرّر الجيش السوري إرجاع هذه المنطقة إلى الحضن السوري، ما هو موقف أميركا؟ هل سيقع الصدام مع الجيش السوري بوجود الروسي؟ وهناك في الطرف الآخر المسلحون المحسوبون على تركيا في إدلب وريفها كيف سيكون التعامل معهم؟ هنا ترسم خيوط المعادلة بين الأكراد والأتراك ومن يدعمهم وهو الأميركي، فكلما قويت الدولة السورية في مناطق الأكراد وبانت معالم الوجود السوري عسكريا وسياسياً في شمال شرق سورية – أيّ مناطق قوات سورية الديمقراطية – سواء بالقوة العسكرية أو بالتفاهم السياسي، لم يعد للأتراك حجة في دعم أيّ كيان مسلح، تحاول تركيا من خلالهم منع المشروع الكردي في سورية الذي في الأساس همّها الأكبر لذلك كان خطاب الرئيس الأسد قوياً ضدّ قوات سورية الديمقراطية التي تحمل مشروعاً تقسيماً واضحاً تحت راية أميركية.
تبقى بعد ذلك منطقة إدلب بمسلحيها المدعومين من تركيا وهنا يكون السقف التركي منخفضاً بعد أن يطمئن انه لا وجود لخطر كردي على أمنه القومي، وأعتقد التركي لن يتعنّت في المساعدة لحلّ سلمي في إدلب على غرار ما حدث في الغوطة الشرقية.
رسائل الأسد ستكون هي الاستراتيجية المقبلة والتي ولدت من رحم الانتصارات المتتالية للجيش السوري وحلفائه، وما عوّدنا الرئيس الأسد إلا أن نسمع منه بوضوح الرؤية العسكرية والسياسية لصالح الحكومة السورية والتي كان نصر الغوطة وفشل العدوان الثلاثي على سورية، ومن بعده الفشل الذريع لليلة الصواريخ الإسرائيلية التي قوبلت بصواريخ مضادة تسقط أول مرة بهذه الكمية على الجولان المحتلّ.
هذه الأمور هي التي رسمت الاستراتيجية العسكرية الجديدة ومقابلة الرئيس بشار الأسد حدّدت معالمها المقبلة في إرجاع كلّ شبر من الأراضي السورية إلى حضن الدولة وهذا ما سنراه قريباً…