الطوائف والسيادة في «الميثاق الوطنيّ»
نسيب بو ضرغم
الميثاق يعني التعبير عن نص ذي مضامين توافقية تأسيسيّة وطنية شاملة، يعتبر الشرف العصب الأساس في ترابط عناصره وبنوده. وهو بهذا المعنى يعلو الدستور مرتبة.
من الوجهة التاريخية، لا شك في أن «الميثاق الوطني» شكّل، منذ وضعه، الأساس الذي قام عليه هذا البناء الطائفي ـ المذهبي كلّه، سواء في الدولة أم المجتمع. فما هو الميثاق؟ وكيف وضع؟ والأهم في ذلك هو الحراك الذي سبق وضع الميثاق وارتبط بكلٍ من ركني الميثاق وهما بشارة الخوري ورياض الصلح، بحيث تشكّل المقدّمات التاريخيّة السابقة عليه نوراً كاشفاً لجوهر هذا الميثاق الذي يقف بالمحصّلة الأخيرة وراء كل فواجعنا وانهياراتنا الوطنية.
هذا «الميثاق» الذي تعرض بشكل دائم لانقلاب واضعيه عليه، ولم يكن البعد الأخلاقي المحدّد بالتزام الشرف مانعاً من ذلك.
يقول د. إدمون ربّاط في كتابه التكوين التاريخي للبنان السياسيّ والدستوري ـ ج3»، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 2002 ص 830 الآتي:
«الميثاق الوطني Gentlemen agreement هو اتفاقية سياسيّة لا ضامن عادة لتنفيذها سوى تعهد المشاركين فيها بالتزامها شرفاً».
لقد جرى تسمية ما اتفق عليه بين كل من بشارة الخوري ورياض الصلح بالميثاق وهذا لا ينطبق على مفهوم الميثاق، لا من الوجهة التاريخية، ولا من الوجهة الدستورية، كونه لم يأتِ نتيجة تفاهمات بين جميع المواطنين. فـ»تسمية الميثاق بهذا الإسم أمرٌ يحيط به الغموض، فهو لم يكن اتفاقاً مبرماً، ولا كان تبادلاً لإرادات ونوايا مفصلة إلى هذا الحد وذاك، بل كان بالأحرى نتيجة تقارب عفوي ! حصل بين قطبين كانا حتى تاريخه متضادين، قطب العروبة المتلائم مع لازمته الطبيعية المتعلقة بالوحدة مع سورية من جهة، وقطب التلبنن حامل اللواء الفرنسي والمسيحي من جهة أخرى» إدمون رباط ـ المرجع السابق ـ ص 831 .
ويكمل د. رباط فيقول عن الميثاق:
«… وفي نهاية التحليل، عبارة عن ميثاق معقود بين الطوائف جرياً على السنّة التسووية التي طبعت في الماضي تاريخ جبل لبنان، بل إنه على نحو أدق، ميثاق بين الطائفتين المارونية «بشارة الخوري» والسنية «رياض الصلح»، اللتين تتصدران مواقع التوتر الإسلامي ـ المسيحي…، وبناء على ذلك يصعب إقامة البرهان على أن الطوائف الأخرى، أو الجموع المارونة والسنية قد استثيرت بصدده، أو دعيت لإبداء رأيها فيه. بناء على ذلك لا يصح وصفه بالوطني إلاّ على سبيل المجاز…». د. رباط، المرجع السابق، ص 841 .
وطالما أن «الميثاق الوطني» كان من صنع رجلين هما بشارة الخوري ورياض الصلح، صار لزاماً التذكير بحركة هذين الرجلين عشية وضع الميثاق، لنتمكن من الغوص في معاني هذا الاتفاق العجيب، وبالتالي معرفة الصلة القائمة بينه وبين فواجعنا وحروبنا كلّها وتخلّفنا في لبنان.
أولاً، بشارة الخوري:
يقول إلياهو بن ساسون عن لقائه بالشيخ بشارة الخوري: «عندما تطرقنا في الحديث إلى ضرورة التعاون بين فلسطين اليهودية ولبنان الماروني، قال لي الخوري: «يوجد بيننا وبينكم حاجز يجب إزالته، وهذا الحاجز هو جبل عامل، هناك ضرورة لتفريغ هذه المنطقة من السكان الشيعة الذين يشكلون خطراً مستمراً على بلدينا !! ، وقد سبق لهم أثناء فترة الاضطرابات في فلسطين أن تعاونوا مع عصابات المفتي لتهريب السلاح والرجال. ويعتقد الخوري أنه يجب تفريغ جبل عامل من سكانه وتوطين الموارنة اللبنانيين المهاجرين حالياً إلى أميركا فيه، وذلك بعد انتهاء الحرب، واقترح علينا الخوري أن نقرض البطريرك الماروني أنطوان عريضة مبلغاً كبيراً من المال لكي يتم شراء منطقة الجبل لإسكان الموارنة فقط هناك في المستقبل، وبهذه الطريقة يصبح الموارنة جيراناً لليهود، ويصبح التعاون وبالتالي سهلاً، ودون مضايقات، وسيقف عندئذ اليهود والموارنة صفاً واحداً أمام الزحف العربي المسلم القادم من الشرق. وبذلك يحافظ اليهود أيضاً على حدودهم الشمالي». بدر الحاج ـ الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان ـ دار مصباح الفكر 1982 ـ ص130 .
وهناك رسالة بخط يد البطريرك أنطوان عريضة منشورة في كتاب «عدو عدوي» ص 293 هاكم نصها الحرفي: «البركة الرسوليّة تشمل حضرة ولدنا العزيز الشيخ أندره عيسى الخوري نائب جبل لبنان المحترم.
لدى مقابلتنا فخامة ولدنا الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية تحدثنا إليه بشأن مقاطعة فلسطين، فأجابنا أن المقاطعة قد ألغيت وعلمنا اليوم أنها لم تزل كما كانت، نرغب إليكم أن تراجعوه بالأمر». تاريخ الرسالة 9/7/1947 .
واضح من هذين النصين، خاصة النص الأول الذي يعود تاريخه إلى سنوات قليلة جداً من تاريخ «الميثاق الوطني» ويُظهر كلام بشارة الخوري حقيقة ما كان يفكّر فيه لجهة اعتبار المسلمين خطراً على المسيحيين واليهود، وأنه يطمح إلى علاقة متينة بين لبنان و«إسرائيل»، لا يمنعها إلاّ وجود الشيعة في الجنوب.
هذا هو التفكير الحقيقي لأحد ركني «الميثاق الوطني»!! ولا شك في أن ما جرى بين الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح على مستوى الميثاق ليس أكثر من تثبيت معادلة داخلية تريح اليهود من جهة، وتنسجم مع اتفاقية سايكس ـ بيكو من جهة ثانية.
ثانياً، بالنسبة إلى رياض الصلح:
لا ضرورة للعودة بالتفصيل إلى محطات تعاونه مع اليهود بدءاً من عام1921 حينما التقى حاييم وايزمن في لندن.
1934 الصلح يعقد اتفاقاً مع بن غوريون في القدس الاتصالات السرية العربية الصهيونية ـ مصطفى أمين ـ ص 85 ـ 86 .
1939 ـ رسالة من الصلح إلى بن غوريون حيث يتعهد بخنق تيار الوحدة السورية البناء ـ عدد 981 ـ 782 .
كثيرة هي المحطات التي ورد ذكرها في المقالات السابقة وكلّها تصب في خانة تعامل رياض الصلح مع الوكالة اليهودية.
إن عرض هذه المحطات سواء المتعلق فيها بالشيخ بشارة الخوري أو رياض الصلح، يهدف إلى اكتشاف حقيقة ما كان يخفي هذا الميثاق الوطني الذي لم يولد للبنان إلا الأزمات السياسية والدستورية والعسكرية وغيرها، حتى بات التاريخ اللبناني تاريخ أزمات من مختلف الأشكال والأنواع، آخذة برقاب بعض.
لعل د. إدمون رباط قد أبدع في وصف هذا الميثاق حينما قال:
«… لكن لم يخطر على بال أحد هو أن صيغة الحياة الجماعية هذه ويقصد صيغة الميثاق «العبقرية» على حد التعبير الشاعري الذي استعمله بيار الجميل ذات يوم كانت تحمل أي صيغة الميثاق في ثناياها جراثيم التحلل والتعفّن التي لا بد أن تدب بكل بُنية متعددة الطوائف. ما لم تُعالج هذه البنية من خارجها». د. رباط، المرجع السابق، ص 831 .
عرضنا للمقدمات التاريخية السابقة على وضع الميثاق والمتعلق باثنين يعتبران ركني هذا الميثاق، وتبين أن كلاً منهما غارق في علاقات مع الوكالة اليهودية أو مسؤولين صهاينة، إذ من الممكن لهما أن يؤسسا لميثاق وطني فعلي قائم على المواطنة. بل جنحا إلى تأسيس معادلة مفخخة تتناسل انفجارات، وفي كل مرة تنفجر تطيح ليس بالاقتصاد فحسب، أو بالمال أو بالأرواح، ولكنها تطيح بالأمل المتبقي بقيامة لبنان المواطنة.
زعيمان طائفيان، لكلّ أسبابه، فرضا اتفاقاً، ليس على المجموع اللبناني آنذاك فحسب، بل على أجيال لبنانية مرّت ويستمر، إن لم يتغير هذا الميثاق ويستبدل بميثاق وطني فعلي قائم على ركيزتين:
وطن ومواطن من دون حاجز أو وسيط.
في المقالات التالية سوف نعمد إلى تحليل نصوص الميثاق وإلقاء الضوء على نتائجها منذ وضع الميثاق حتى اليوم.