قراءة أولية في قمة سنغافورة
زياد حافظ
تضجّ مراكز الأبحاث والمواقع الالكترونية في الولايات المتحدة حول نتائج قمة سنغافورة التي جمعت رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ اون والرئيس الأميركي دونالد ترامب. القراءة الأولية لردود الفعل الأميركية في الإعلام وفي مراكز الأبحاث تشير إلى استياء واضح من عقد هذه القمة ومن نتائجها أو عدم نتائج ملموسة من وجهة نظر أميركية . فهناك قناعة بأن الرئيس الكوري كيم جونغ اون تفوّق على الرئيس الأميركي، وفقاً لمقال نشره الباحث دافيد راسل على موقع «فورين افيرز» التابع لمجلس العلاقات الخارجية. الخلاصة الأساسية هي أن الرئيس الكوري انتزاع اعترافاً دولياً بأنها دولة نووية ومحترمة لم يستطع كل من والده وجدّه الحصول عليه. بينما لم يحصل الرئيس الأميركي على أي شيء، رغم تصريحاته بنزع فتيل مجابهة نووية مدمّرة للجميع. بالمقابل يعتبر دوغ باندو على موقع «فورين بوليسي» أن أي إيجابية من ذلك اللقاء يعود للكوريين أنفسهم شمالاً وجنوباً وليس للرئيس ترامب. فالمزاج الأميركي لدى النخب يتراوح بين نفي إي إيجابية، وإن كانت هناك إيجابية ما فليس بسبب ترامب.
لكن اللقاء كان بحد ذاته تاريخياً. لم يقابل أي رئيس أميركي سابق أيّاً من القيادات الكورية الشمالية وبالتالي يرتقي اللقاء إلى تاريخية لقاء الرئيس نيكسون بماو تسي تونغ عام 1972. وإذا لم يكن البيان الختامي يعبّر عن تفاهمات والتزامات متبادلة واضحة إلاّ أن الجليد بين البلدين الذي يعود إلى حوالي سبعين سنة قد كُسر، وهذا إنجاز قائم بنفسه. قراءات آسيوية تصبّ في الاتجاه المعاكس عن قراءات المواقع وووسائل الإعلام الأميركية. فوفقاً لدبلوماسي هندي مرموق ك أم. ك. بهدراكومار فإن اللقاء كان تاريخياً بالفعل خلافاً للرأي الإعلامي الأميركي ومراكز الأبحاث التي تكنّ العداء المطلق للرئيس الأميركي. فاللقاء كان ندّياً بين الطرفين والتفاهم الذي نتج عنه هو بمثابة خريطة طريق للقاءات أخرى. فالرئيس الكوري الشمالي قبل دعوة الرئيس الأميركي إلى واشنطن.
من إنجازات اللقاء هو طرح الملفّات المزمنة كأمن شبه الجزيرة الكورية وتداعياتها على كل من الصين واليابان. فالرئيس الأميركي عرض على نظيره الكوري صفقة يصعب عليه رفضها. من جملة المواضيع إنهاء المناورات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية المشتركة، واحتمال انسحاب القوّات الأميركية من كوريا الجنوبية. كما أن التلويح برفع العقوبات مع بداية نزع السلاح النووي وعرض ضمانات للأمن الكوري، والتلميح الأميركي إلى مشاركة يابانية وكورية جنوبية في مساعدات اقتصادية، وضلوع الصين في كل ذلك، من القضايا الملموسة التي يمكن أن تتحقّق بعد البحث في التفاصيل في لقاءات مرتقبة وقريبة.
طبعاً، صدى تلك المحادثات عند حزب الحرب الأميركي كان سلبياً للغاية. فالشركات الأميركية المصنّعة للسلاح كانت الخاسر الأول، حيث انخفضت أسعار أسهمها فور عقد اللقاء. كما أن المنظّرين من محافظين جدد إلى ليبراليين متدخّلين كانوا واضحين في معارضتهم للقاء، بينما أوساط مقرّبة من البنتاغون كانت أكثر ترٌّقباً وحذراً. ومن الواضح أن الرئيس الأميركي اعتبر أن إنجاز الصفقة التاريخية، عندما تتم، ستساعده في إعادة انتخابه عام 2020 كما اعترف في المؤتمر الصحافي بعد اللقاء مع نظيره الكوري. أما على صعيد كوريا الجنوبية فهناك ارتياح كبير لإمكانية إبرام اتفاقية سلام تُنهي النزاع المزمن الذي امتدّ إلى أكثر من سبعة عقود. وهناك كلام عن متاجرة مرتقبة مع الجارة الشقيقة الشمالية.
إن المشكّكين يعتبرون الوثيقة الصادرة عن اللقاء وثيقة فضفاضة قد لا تعني شيئاً. بالمقابل يشير البعض إلى أنه ليس هناك أي وثيقة يمكن تحريرها وتكون واضحة مئة بالمئة. فالمجال للتأويل موجود. لكن قيمة اللقاء لا يمكن اختزاله بوثيقة حيث الأهم هو غير مكتوب ولا يمكن أن يكون مكتوباً في ظروف مماثلة للحالة الأميركية الكورية الشمالية. هذه العلاقة أصبحت مبنية على رغبة وقدرة الرجلين على تجاوز المطبّات التي ستضعها الدولة العميقة في البلدين وأصحاب المصالح المستفيدين من الوضع القائم واللذين لا يريدون تغيير أي شيء. وأهمية اللقاء تكمن في التعبير الواضح عن رغبة ترامب بعقد صفقة ما مع نظيره من كوريا الشمالية. حتى الآن ما أعلن عنه الرئيس الأميركي هو إيقاف المناورات المشتركة لأنها «مكلفة وتثير استفزاز» كوريا الشمالية! يتناقض هنا الرئيس الأميركي مع موروث سياسي طال سبعة عقود واعتمدته الدولة العميقة في الولايات المتحدة. هذا الموروث هو التوسّع الدائم وفرض الهيمنة على العالم مهما كلّف الأمر. بينما ينظر الرئيس الأميركي إلى القضايا الدولية من منظور رجل أعمال يعقد صفقات دون الالتفات للأبعاد السياسية والجيوسياسية. في الموضوع الكوري كما في الموضوع الإيراني أو الموضوع الأوروبي، فما يبحث عنه هو المصلحة المباشرة وكلفتها. فيعقد الصفقة إذا تفوّقت المصلحة المباشرة على كلفتها. أما تعريفه للمصلحة المباشرة فهو تصحيح ميزان تجاري سلبي لدى الولايات المتحدة.
هذه قراءة مباشرة للحدث. أما بالنسبة لنا، فهناك دلالات عدة. الدلالة الأولى هي أننا نرى اللقاء تتويجاً لجهود كوريا الشمالية التي كافحت منذ سبعة عقود لصون استقلالها. ما لا يعرفه كثيرون هو أن كوريا كشبه جزيرة كانت على امتداد قرون عدّة مملكة موحّدة. غير أنها تعرّضت خلال القرن الماضي لاحتلالات عدّة منها الاحتلال الياباني، ومن بعده الأميركي تحت غطاء الأمم المتحدة. فتمّ تقسيم شبه الجزيرة. فالحرب الكونية التي شُنّت على كوريا الشمالية كانت بغطاء الأمم المتحدة في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي سببها الحقيقي مواجهة الصين بالدرجة الأولى التي تحوّلت دولة شيوعية. فالاعتبارات الجيوسياسية طغت على الاعتبارات العقائدية التي لم تكن إلاّ ذريعة لمشروع هيمنة أميركية على القارة الآسيوية بعد الحرب العالمية الثانية.
الدلالة الثانية هي نجاح السعي نحو استقلالية القرار الكوري الشمالي وربّما إلى حدّ ما استقرار القرار الكوري الجنوبي الذي كان، منذ وقف العمليات العسكرية في كوريا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، محمية أميركية بامتياز. هنا ربما يقع التشابه مع إيران. فالجمهورية الإسلامية حريصة على استقلال قرارها ولا تريد أن تكون تابعة لأي دولة كما في أيّام الشاه. فكوريا الشمالية تريد صون استقلالها عبر تأمين أمنها القومي.
الدلالة الثالثة هي أن الكوريتين تسعيان إلى وحدة شبه الجزيرة. فهناك مؤسسات أقيمت في الكوريتين من أجل توحيدهما. وهذا ما يقلق الولايات المتحدة بالدرجة الأولى اليابان، العدو التاريخي لكوريا، بالدرجة الثانية. نجحت الجهود الأميركية واليابانية في العهود السابقة الأميركية في إجهاض السير في توحيد شبه الجزيرة، إلاّ أنها لم تفلح في إلغائها. والرئيس الكوري الجنوبي الحالي مون جاي ان حريص على إعادة إنعاش تلك المسيرة التي قد تأتي بثمار خروج القوّات العسكرية الأميركية من شبه الجزيرة. فالجهود المشتركة بين الرئيسين الكوريين قبل انعقاد اللقاء بين الرئيس الكوري الشمالي والأميركي ركّزت على ملف توحيد الكوريتين واستئناف الحوار في ذلك الموضوع. كما أن الكوريتين تريدان الانتقال من حال الهدنة المعمول بها منذ نهاية الاشتباكات إلى إنهاء العداء وإقرار حالة سلم بين البلدين كشرط لتوحيدهما. ويعود لرئيس كوريا الجنوبية الفضل بنزع فتيل التوتّر بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، لأن كوريا الجنوبية ستكون أول من يتحمّل وزر حرب جديدة في شبه الجزيرة. فهو أحد مهندسي لقاء سنغافورة علماً أنه كان مدعوماً من الصين وروسيا.
وهنا تكمن الدلالة الرابعة وهي مدى التنسيق بين كل من الكوريتين مع الصين وروسيا بمعزل عن الرأي الأميركي. فالأخيرتان مهّدتا منذ فترة لذلك اللقاء فعقدا قمة في فلاديفوستوك في شهر أيلول/ سبتمبر 2017 بحضور وفد من الكوريتين تمّ تحديد مستقبل شبه الجزيرة الكورية. فقضية توحيد الكوريتين والتشبيك مع شرق روسيا والصين سيفسح المجال لتنمية اقتصادية لكوريا الجديدة والموحّدة بعيداً عن النفوذ الأميركي.
والتنسيق الكوري الصيني كان متقدّماً. فلا يجب أن يغيب عن البال أن الرئيس الكوري الشمالي لا يتنقّل خارج بلاده إلاّ في حالات نادرة، غير أنه خلال النصف الأول من عام 2018 التقى بالرئيس الصيني في الصين مرتين وها هو على وشك الالتقاء به مرّة أخرى في بيجين وعلى مدى يومين، وذلك بعد أسبوع فقط من اللقاء مع الرئيس الأميركي، مما يدلّ بشكل قاطع على مستوى التنسيق إن لم نقل التحالف بين البلدين. هذه الجهود تحظى بموافقة الشعب الكوري الجنوبي. تشير استطلاعات الرأي العام التي أجريت بعد لقاء سنغافورة إلى أن أكثر من 88 في المئة يؤيّدون اللقاء بغض النظر عن الموقف الأميركي.
الدلالة الخامسة هي في قراءة مواقف الجانب الأميركي. من سياق الأحداث التي سبقت اللقاء مواقف أميركية عبّر عنها كل من نائب الرئيس الأميركي مايك بنس ومستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون نرى وجود معارضة شديدة لذلك اللقاء وما يمكن أن يصدر عنه. فالرجلان لم يُخفيا معارضتهما لذلك اللقاء وحاولا نسفه. غير أن الرئيس الأميركي «تمرّد» عليهما، فأوفد وزير خارجيته مايك بومبيو مرّة ثانية لإعادة إحياء اللقاء بعد رسالة الرئيس الأميركي للرئيس الكوري الشمالي بإلغاء اللقاء. كانت الحجّة «اللهجة العدوانية» الصادرة عن الرئيس الكوري ردّاً على تصريحات بولتون وبنس. فمن الواضح أن الأمور ليست على ما يرام داخل هذه الإدارة التي لا يمرّ يوم إلاّ وتناقضات علنية وتخبّط في القرار، ثم التراجع عنه بسرعة البرق.
فإن ما يحصل داخل الإدارة حرب استنزاف بين الدولة العميقة وأجنحتها المتعدّدة والمتصارعة مع بعضها بعضاً وبين هذه الدولة العميقة الأمنية والرئيس الأميركي. في بداية الولاية كانت قدرة الدولة العميقة على استنزاف الرئيس الأميركي واضحة. اليوم على ما يبدو هناك تبدّل بين قدرة الرئيس والدولة العميقة وإلاّ لما حصل اللقاء بين ترامب وكيم إيل جونع. هذا لا يعني أن الصراع داخل مكوّنات الإدارة قد انتهى، بل إننا نشهد فصلاً جديداً منه. لكن في مطلق الأحوال فذلك التخبّط يساهم في ضرب مصداقية الإدارة والرئيس الأميركي. فهل تنتصر الدولة العميقة وتُفشّل المضي في التفاهم مع كوريا الشمالية؟ هذا ما ستكشفه المرحلة المقبلة وما تبقّى من ولاية الرئيس الأميركي.
فإصرار الرئيس الأميركي على عقد اللقاء، مهما كلّف الأمر له أيضاً دلالات لا تقلّ قيمتها عن الدلالات السابقة. فمن جهة يمكن تصوّر ذلك اللقاء جزءاً من الحملة الانتخابية الرئاسية المبكرة. فإنجاز اللقاء وما يمكن أن ينتج عنه قد يوظّف في مشروع إعادة انتخاب ترامب لولاية ثانية. هذا ما صرّح به الرئيس الأميركي خلال المؤتمر الصحافي عقب اللقاء وذلك في لحظة صراحة نادرة. فالرئيس الأميركي بحاجة إلى «نجاح» ما على صعيد السياسة الخارجية بعد تعثّر معظم مشاريع الإدارة في شرق الأوسط وتصدّع العلاقات مع الحلفاء في الغرب.
لكن بعيداً عن الاعتبارات الانتخابية، فإن ما أقدم عليه الرئيس الأميركي هو تعبير عن أولوية شرق آسيا على المناطق الأخرى. هذه الأولوية تؤثّر على مدى تمسّك الولايات المتحدة في المشرق العربي. فلولا الكيان الصهيوني لما كانت الولايات المتحدة متورّطة بالشكل التي هي عليه الآن في المنطقة وتلقّي الهزائم السياسية والعسكرية. والرئيس الأميركي، من حيث يدري أو لا يدري، يستكمل التوجّه نحو شرق آسيا الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. فالمنافس الحقيقي للولايات المتحدة هو الصين ويأمل باستجلاب كوريا الشمالية عبر إغراءات اقتصادية يصعب رفضها. شرق آسيا أقرب إلى الولايات المتحدة جغرافياً من الشرق الأوسط وتعقيداته والأمن القومي الأميركي يتأثر بشرق آسيا أكثر مما يتأثّر بالشرق الأوسط. هذا لا يعني أن الولايات المتحدّة ستتخلّى عن محاولات فرض سيطرتها على المعمورة، بما فيها الشرق الأوسط، غير أن إمكانياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية لم تعد تسمح لها بذلك. فموازين القوّة تغيّرت والولايات المتحدة دخلت مرحلة الأفول الاستراتيجي رغم محاولاتها إيحاء عكس ذلك.
أمين عام المؤتمر القومي العربي