أهم من الحكومة

روزانا رمّال

يغادر الرئيس سعد الحريري البلاد في إجازة لمدة يومين من المفترض أن يراجع فيها الأفرقاء آخر المقترحات التي تقدّمت لقصر بعبدا، ومنها ما تم رفضه بالكامل من قِبلها وهي حكومة الأربعة والعشرين وزيراً. هكذا يصبح رئيسا مجلس النواب والوزراء خارج الحكومة والبلاد في مهب الريح. كلام تقليدي هو هذا الذي كتب الآن فمنذ متى لم تكن هذه البلاد في مهب العواصف المنتظرة دائماً وغالباً؟ ومنذ متى لم تكن البلاد واقعة ضمن «فكي كماشة» لم يفقه منها اللبناني سوى إحساسه بالمزيد من الهم الذي لا علاقة به لا من قريب ولا من بعيد سوى أنه يدفع من عرق جبينه دين دولة تنهار وتهدّده صبح مساء بلقمة عيشه؟ ثم ماذا عن كفّ العفريت ذلك الذي عاش عليه لبنان لأكثر من سبعين عاماً؟ يكفي ان تفتح واحدة من صفحات جريدة النهار أو البيرق أو الشرق لتجد هذا المصطلح مكرّراً لسنوات في كل الصحف آلاف المرات حتى اللحظة؟ منذ متى لم يكن لبنان واقعاً تحت التهديد الإقليمي الذي يؤثر عليه محلياً ويعرقل التشكيلة الحكومية أو يعرّضه لخطر حرب مع «اسرائيل» أو مخاطر حرب أهلية أو يهدد الاستقرار المصرفي؟ منذ متى ومتى ومتى؟

كل هذا جلب السقم واليتم لهذا الشعب الذي صار ملزماً بخيارات الضرورة التي يتحمّلها مكرهاً، لكن أي واقع يجبره ان يتحمّل الفلتان الأمني في البلاد؟ أي واقع يجبره على تقبل فكرة السلاح داخل المنازل والرصاص يتطاير من فوق أسطح الأبنية؟ أي واقع يفرض عليه اعتبار جريمة القتل «فورة غضب»؟ منذ متى صار لبنان ضاحية من ضواحي شيكاغو التي رفعت معدل الجريمة لأعلى المستويات في الولايات المتحدة الأميركية؟ هو ليس كذلك بالتأكيد ولا فكرة حيازة السلاح شبيهة بتلك التي يعيشها الأميركيون، حيث يجيز القانون حمل السلاح برخصة تحمّله مسؤولية الجناية، مع العلم ان الشعب الأميركي يناضل من أجل إلغاء هذا القانون الذي جعل أميركا تبدو صورة عن حياة مافياوية تبيح المحظورات.

حي الجامعة في المريجة بالضاحية الجنوبية لبيروت شهد جريمة مروّعة قتل إثرها الشاب محمد زهر 25 عاماً من بلدة حاريص الجنوبية على يد شاب يبلغ من العمر 18 عاماً.. قيل إن السبب لعبة الفوتبول، لكن هذا بكل الأحوال ليس السبب، لأن ما جرى لا يفسره الا «استسهال القتل».

إشكال وتلاسن وإطلاق نار في الهواء وتشابك بالايدي وصولاً الى الغضب والطعن بالسكين، كل شيء صار مؤهلاً لوقوع الجريمة بعد ان تبين ان الحي بأكمله يتعاطى مع مواطنين يحملون السلاح بمنازلهم بشكل عادي. صحيح أن محمد لم يمُت بسبب الرصاص، الا أن هذا الرصاص كان احد اشكال الاستفزاز الذي علا منسوب الاستدراج أو بكل الأحوال غذّى المشهد وزاده تصلباً. الامر يتطلب ثواني قليلة ليفارق الشاب الحياة نتيجة «خطأ»!

انتشار السلاح واستسهال الجريمة وغياب الدولة وتقصيرها عن تحمّل المسؤوليات يحمل اليها نماذج يومية من هذه المراهقة القاتلة التي أودت الى أهل الجاني بتدمير معنوي ونفسي لا مثيل له فقد سلّموا ابنهم بكامل إرادتهم نزولاً عند القانون والدولة! لكن أي دولة؟

هذه العائلة التي تريد العقاب والحساب لابنها، وكل ما يمليه القانون، تشبه العائلات التي تناشد الدولة للقيام بواجبها. هذه العائلة المتورطة بسوء الحظ والقدر واقعة ضمن منظومة التقصير التي تحيط ظروف العيش في أغلب المناطق تناشد تطبيق القانون لكن أين الدولة من واجبها؟ وما هي خطتها تجاه ما يجري؟

هذه الجريمة تأخذ الى البقاع وبعلبك والعشائر التي خضّت البلاد بين تجاذبات تحاول تفسير سلوكها، واخرى ترفض بالكامل التعاطف مع أي مخالف، رفع القيمون في المنطقة الصوت ونوابها كذلك، بُحّت حناجرهم من اجل تأمين الامن والسلام لأبنائها، منهم من شنّ حملة تحميل مسؤوليات للجيش والقوى الامنية بأعلى مستوياتهم ومنهم من نزل الى الشارع ليقول: «يا محلا ايام داعش»!

نفسها الدولة التي لا تعرف التعويض عن السيول والكوارث الطبيعية التي تتوقعها أي دولة عضو في الامم المتحدة على اساس أنها تعرف مبادئ صيانة وحماية افرادها، لا تعرف كيف تجد خطة شاملة لسحب السلاح الفردي أو ترخيصه وحصر استخدامه ودراسة حالات الانتحار وأسباب استسهال القتل أنه «ثقافة».

كل شيء «ثقافة»، وهناك مَن افتقد التواصل مع الدولة فعلاً.. نسيها لأنها نسيته ولا يعرف شكل العلاقة معها، أية ثقافة هي التي لا تجد في تخطي اشارة المرور «إثماً»؟ كيف ستبني علاقة سليمة مع دولة لا «يهابها» الناس؟..

لا يوجد أي لبناني لا يتوقع أن يحصل مثل هذه الجرائم التي قد تقع في أي بلد، لكن على مرأى ومسمع ومعرفة الدولة، وكل المواطنين بانتشار السلاح وإقرار العجز، فهذا يعني الكثير والكثير..

عن أي تشكيلة حكومية تتحدّثون!؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى