التجسّس علاقة ربحية متبادلة بين «وكالة الأمن القومي» والشركات الكبرى

اعتبر البعض أنّ «سراً» خطيراً وعظيماً تمّ إفشاؤه مؤخراً في عالم التجسّس حول العلاقة الوطيدة والترتيبات العميقة بين وكالة الأمن القومي National Security Agency وكبرى شركات الاتصالات الأميركية، «إيه تي أند تي» AT T، يوثق ترتيبات بينهما للتجسّس على كافة وسائل الاتصالات الالكترونية والهاتفية، ليس على المواطنين الأجانب فحسب، بل على المواطنين الأميركيين أيضاً، في انتهاك صارخ لإحدى الركائز المقدّسة في النظام الأميركي: عدم التعرّض للحرية الشخصية للفرد دون إذن قضائي مسبق.

«السرّ» كشفت النقاب عنه نشرة «ذي انترسيبت» الإلكترونية، 25 حزيران/ يونيو الماضي، في تحقيق مطوّل استند في جزئياته على ما لم ينشر سابقاً من «بيانات» كانت بحوزة المتعاقد السابق مع الوكالة، إدوارد سنودن.

أضحى من البديهيات في عالم التقنية المكثف أنّ «شبكة الاتصالات العالمية» الهائلة تمرّ، بصورة أو بأخرى، عبر خوادم وأجهزة وشبكات أميركية، إما داخل أراضيها أو تلك المملوكة لمصالحها الإقتصادية والمنتشرة حول العالم، لا سيما في أوروبا ومناطق أخرى. واستناداً إلى «الملكية الأميركية» لتلك الأجهزة أو مكوّناتها، خوّلت وكالة الأمن القومي نفسها باعتراض والاحتفاظ بنسخة أو أكثر من كلّ ما يطأ أو يلمس تلك الأجهزة من بيانات اتصالات الكترونية يومية، غير مقيّدة في المعاملات المصرفية مثلاً، وإنما تشمل كلّ ما يطرأ على خيال المرء في القرن الحادي والعشرين.

من المسلمات أيضاً خضوع تلك البيانات اليومية إلى أجهزة «تنقية ونسخ وفرز.. تستخدم تقنيات بالغة التعقيد» تعرف بـ سيغ إنت SIGINT ذكاء الإشارة، تطبّق أحدث ما توصل إليه العلم في مجال «الذكاء الإصطناعي»، لتفكيك ورصد وتعقب جزئيات متناهية من المعلومات المحدّدة سلفاً.

العلاقة القائمة بين المؤسسة الاستخباراتية بمجملها والقطاع الخاص الأميركي ظهرت للعلن مطلع عام 2003، تداولتها كبرى الصحف ووسائل الإعلام الأميركية حينئذ بالقول إنّ شركة «إيه تي أند تي» صدّرت أمراً لأحد كبار خبرائها، مارك كلاين، لتسخير كفاءته وخبرته «مساعدة وكالة الأمن القومي زرع معدات وأجهزة تنصّت داخل أقسامها الرئيسة الواقعة في غرفة رقم 641-A» في مقرّ الشركة بمدينة سان فرانسيسكو.

العلاقة المترابطة بينهما سلط عليها الضوء تقرير ليومية «نيويورك تايمز» استناداً للوثائق المسرّبة عام 2015، عن طريق المتعاقد السابق إدوارد سنودن.

بيد أنّ انخراط الشركة المذكورة في توفير خدمات تجسّسية يعود لعام 1985، وفق وثائق الوكالة المتداولة أما وقوع الاختيار عليها فيُعزى إلى «الثقة الفائقة لوكالة الأمن القومي بها ونظراً لاستعدادها الدائم توفير المساعدة»، أيّ معالجة الكمّ الهائل من البيانات وفرزها وفقاً لمعايير أهميتها الاستخباراتية.

ومنذئذ برز في التداول اليومي برامج تجسّس إلكترونية لصالح وكالة الأمن القومي، هاميسفير – نصف الكرة، ومن ثم لمكتب التحقيقات الفيدرالي، تعود ملكيتها للشركة المذكورة حصراً قدّرت كلفتها الأوّلية آنذاك بعدة ملايين من الدولارات نيويورك تايمز .

الأحدث منها هو برنامج فير فيو FairView، استحدث عام 1985، لغرض رئيسي «.. لمراقبة المواطنين والمقيمين في الولايات المتحدة، حتى أولئك الذين لا يستخدمون موارد وخدمات شركة إيه تي أند تي» عبر مقرات رئيسة للشركة «تغلفها بسرية تامة» موزعة على ثمانية مدن أميركية محورية: أتلانتا شيكاغو دالاس لوس أنجليس نيويورك سان فرانسيسكو سياتيل وواشنطن العاصمة. انظر خارطة التوزيع المرفقة أدناه .

وفي مكان آخر أشار التقرير إلى طبيعة المباني العالية لتلك المراكز، التي أنشئت كي تنساب تلقائياً مع ما يحيطها من أماكن تجارية تفادياً للكشف الإعلامي عنها، مسلحة بطبقة سميكة من الحديد الصلب. بيد أنّ اللافت هو شحّ عدد وحجم نوافذها، لا سيما في مبنى واشنطن العاصمة ودالاس بولاية تكساس إذ جرى تصميم الزجاج الواقي بحيث «يتحمّل هجوماً نووياً» وتبعاته، كما هو الحال في مبنى الشركة بمدينة نيويورك بينما يتميّز مركز مدينة شيكاغو بخاصية مقاومته للزلازل.

خصّ تقرير «ذي انترسيبت» مقرّ الشركة في مدينة نيويورك باهتمام مميّز ترمز له الوكالة بمصطلح ليثيوم قائلاً «إنه من أغرب أيقونات ناطحات السحاب في المدينة»، يتكوّن من 29 طابقاً فوق الأرض، وثلاثة طوابق تحت الأرض، بداخله خزانات وقود ضخمة سعتها 250.000 غالون، وكمية من الغذاء تكفي لإطعام نحو 1.500 لمدة أسبوعين من الزمن.

وأردف التقرير المذكور أنّ مقرّ ليثيوم هو عبارة عن «شبكة استخبارات رقمية» منوط بها «اعتراض الإشارات اللاسلكية الصادرة عن الأقمار الإصطناعية والمتبادلة بين مختلف الأقمار الوسيطة والأجنبية».

اللافت أيضاً أنّ ليثيوم يلعب دوراً هاماً في «عمليات الشرق الأوسط.. استخدم للتنصّت على مكالمات وتردّدات الكترونية تعود لبعثات دولية في الأمم المتحدة ومنها مراسلات قام بها الموفد الأممي لسورية».

محتويات البيانات

تجدر الإشارة إلى أنّ ما يتوفر لشركة الهاتف والاتصالات الدولية من قدرات تقنية سواء لناحية حجمها الهائل أو لدى مختبراتها البحثية المتعدّدة وتطبيقاتها الابتكارية لا تضاهيها أيّ مؤسسة أخرى، باستثناء ما لا ندركه من يقين لدى الأجهزة الاستخباراتية الأميركية.

تمتلك الشركة نسبة تفوق 75 من مجموع خطوط الاتصالات وأجهزة التحويل المتوفرة في الولايات المتحدة بأكملها فضلاً عن مركزها الثاني في شبكة توزيع الاتصالات اللاسلكية للهواتف المحمولة، بعد منافستها شركة فُرايزن، داخل البلاد. الشركة تعرف عن نفسها في نشراتها بأنّ خدماتها في مجال الإتصالات تغطي كافة نقاط الكرة الأرضية.

وتتحكم «إيه تي أند تي» ببيانات اتصال موزّعي الشبكات الأخرى من خلال عملية الاقتران الشبكي: عندما يزيد الضغط على أجهزة شركة معيَّنة، مثل سبرينت، فإنَّها تستطيع استئجار مؤقت لنطاقات متاحة وموارد أخرى من الشركة العملاقة. بعبارة أخرى فإنّ «إيه تي أند تي» تمرِّر بيانات مستخدمي شبكة سبرنت عبر مراكزها الثمانية في بعض الأحيان. أما الاتصالات الدولية من وإلى الولايات المتحدة فتخضع أيضاً لسيطرة الشركة المذكورة في كافة مراحلها بين الصادر والوارد، نظراً أيضاً لتحكم الشركة بالكابلات الدولية كما يبيّن الشكل أدناه وفق ما ورد في وثائق الوكالة.

ولتسليط مزيد من الضوء على طبيعة «مهام» الشركة، نقل تقرير «ذي انترسيبت» السالف الذكر عن موظف تقني سابق أنهى 22 عاماً من الخدمة لديها، مارك كلاين، جاء فيه أنّ باستطاعة الشركة «التقاط كافة البيانات الموجهة والمتبادلة بين شبكات إيه تي أند تي وأجهزة الشركات الأخرى»، موضحاً أنه بحكم «التقسيم الوظيفي» في مجال الاتصالات فإنّ الشركة المذكورة «ملزمة بالسماح لكافة البيانات الأخرى المرور عبر شبكاتها المتعددة، في أيّ وقت.. عبر أحد مراكزها الثمانية الرئيسة»، مفسحة المجال لوكالة الأمن القومي الترصّد عبر شبكة النظائر بين المحطات الرئيسة لمراقبة وتخزين ما تريده بصرف النظر عن حجم وطبيعة البيانات.

مع تزايد استخدام شبكة الإنترنت، طوّرت الشركة المذكورة ميزات برنامج فير فيو، عام 2003، ارتفع بموجبه حجم البيانات المعترضة ما ينوف عن 400 مليار سجل، كما رصدته يومية «نيويورك تايمز».

وأضافت أنّ البرنامج المعدّل كان يرسل نحو مليون رسالة الكترونية يومياً إلى مقرّ الوكالة في ضواحي واشنطن العاصمة تتضمّن جزءاً من مصطلحات شائعة: قنبلة، تفجير إلخ… وبما أنّ «الذكاء الإصطناعي» لا يزال يحبو مقارنة مع التقنيات الأخرى فإنّ المعادلات الخوارزمية التي استند إليها البرنامج عجزت عن تحديد السياق اللغوي أو اللفظي لبعض المصطلحات، كما هو شائع في العامية الإنكليزية، مما شكل «ثغرة» إضافية لصالح فرز البيانات والتعرّف على أكبر قدر من الأشخاص البريئين.

وفي المعدّل فإنّ ما يتوفر لدى الوكالة من بيانات يومياً يقدّر حجمها الهائل بنحو 49 تريليون صفحة، تسخر لها أحدث التقنيات الرقمية والحواسيب المتطوّرة والخبرة البشرية المختصة لفرزها بعد جمعها من مقرات شركة الاتصالات المذكورة، والتعاطي معها في مقرّ الوكالة المذكور بالقرب من العاصمة واشنطن، بواسطة شبكتين فائقتي التطوّر مين واي و مارينا تبحران في أعماق مراسلات البريد الإلكتروني المتعددة.

وثائق سنودن المفرج عنها في المرة الأولى تحدثت عن برنامج تحليل الكتروني ضخم للوكالة، يُعرف بنظام بريزم الموشور، مهمته فرز بيانات الاتصالات الداخلية للأميركيين. وقد أثار جدلاً سياسياً وأمنياً آنذاك استدعى بعض لجان الكونغرس لعقد جلسات استماع لمدراء الأجهزة الاستخباراتية لاستيضاح ما نشره سنودن في صحيفة «نيويورك تايمز» والذين «كذبوا» على الملأ بالادّعاء أنّ الوكالة لا تنشط في أعمال التجسّس الداخلي أو لجمع بيانات تخصّ المواطنين الأميركيين.

«استدعاء» رؤساء الأجهزة الاستخباراتية حينئذ كشف عن جملة حقائق صادمة تتعلق بمدى صلاحيات كلّ فريق ومن يتحكم بالآخر: إذ يرفض أولئك الخضوع لسيطرة الكونغرس أو القبول بدور إشرافي له على المؤسسة الأخطبوط.

سلسة «التسريبات» عن عمل وكالة الاستخبارات «الأمّ»، والتي تشرف على كافة الأجهزة والوكالات الأخرى، خاصة في ما يتعلق بتجاوزها صلاحياتها الممنوحة من قبل الكونغرس، في أقلّ مستوى، أو لانتهاكها القوانين السارية بالتعدّي على خصوصيات المواطن، لم تسفر عن إدخال «إصلاحات» في أساليب عملها للحظة. بل استمرّت في تحديها للسلطتين التنفيذية/ الرئاسية والتشريعية/ الكونغرس.

سبق للكونغرس، وفي لحظة نادرة، أن أصدر مذكرة استدعاء لشركة إيه تي أند تي، صيف 1976، طالبتها بتوفير سجلاتها حول تقارير إعلامية أفادت بتورّطها في عمليات تنصّت على المكالمات الهاتفية لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالي.

وما برز آنذاك عمّق نفوذ الشركة على كافة السياسيين حينما تدخل الرئيس الأسبق جيرالد فورد بالنيابة عن الشركة لإبطال مفعول أمر الاستدعاء متذرّعاً بأنها «.. مؤسسة كانت ولا تزال تعمل وفق توجيهات الحكومة الأميركية وفق عقد مباشر من السلطة التنفيذية».

واستناداً إلى وقائع التاريخ القريب، فمن غير المتوقع أن يقدم أحدهم، سواء كأفراد أو ضمن مؤسسة رسمية، لتقييد صلاحيات ونفوذ اخطبوط الشركة وامتداداتها داخل الأجهزة الرسمية.

بعبارة أخرى، وكما قال أحد المسؤولين فإنّ وكالة الأمن القومي «.. أرست أُسس عِلم الإنحراف».

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى