شروط نجاحِ «هلسنكي» ثلاثة…!
د. وفيق إبراهيم
تحضّر اللجان الأميركية ـ الروسية جدول أعمال قمة «هلسنكي» بين الرئيسين الأميركي ترامب والروسي بوتين في 16 الشهر الحالي، وسط مؤشرات لا تبالغ في التفاؤل المسبق ولا تفرط في السوداوية.
لذلك فهي قمة صعبة تلبي حاجة الأميركيين إلى وقف تراجعاتهم، وإصرار الروس على ترجمة صعودهم المنبثق من الميدان السوري.. وأوكرانيا.. الأول هو قلب الشرق الأوسط والثانية صلة وصلة بين البلقان وأوروبا الشرقية.
لجهة تراجع النفوذ الأميركي، فسببه الخسارة التي منيت بها كل الأدوات التي اعتمد عليها في سنين سبع في سورية. من القاعدة وداعش والنصرة وعشرات التنظيمات المشابهة إلى الدعم الأردني والتركي والسعودي والقطري والإماراتي والإسرائيلي بالسلاح والمال والرعاية. هذا الكلام أصبح ممجوجاً لكثرة تكراره، لكن نتيجتهُ السياسية جاءت مرعبة.
وهي كالآتي: أصبحت إيران لاعباً أولَ في العراق ولها تحالفاتها في سورية واليمن ولبنان.. أما روسيا فخرجت من قمقم سقوط الاتحاد السوفياتي. فابتدأت بالتمرد على هرولة الدب الأميركي نحو أوكرانيا وأخذت حاجتها من الأهميات الجيواستراتيجية لأوكرانيا في شبه جزيرة القرم. فأصبح بحر أزوف مركز الانطلاقة الروسية نحو بحار الأسود – مرمرة ـ ايجه – المتوسط، طرطوس وبانياس من دون كبير عناء وبشيء من اليسر على الرغم من أنّ هذا الخط مراقب من الناتو على طول بحار تركيا.
سورية، اكتسح الروس المشهد بمئة ألف غارة فتحت الطرقات للجيش السوري وحلفائه على 65 من المساحة السورية. بالتوازي لم تنفع محاولات الأميركيين والخليجيين والإسرائيليين في صناعة «ستاتيكو» بين الجيش السوري والإرهاب الذي يسمّيه الغرب المعارضة المعتدلة.. لقد اخترق السوريون خطوط التثبيت الأميركية وخرافات الكيماوي لوقف تقدم الجيش السوري، والزعم أنه يهاجم المدنيين في حين أنّ مئات آلاف المدنيين أبادهم الإرهاب في سورية والعراق واليمن وتونس وليبيا ومناطق مختلفة.
يتبيّن أنّ النفوذ الأميركي أصبح مأزوماً في لبنان، بسبب صعود حزب الله، ومنكسراً في سورية بعد انتصار جيشها المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله، ومتراجعاً في العراق ولا يعرف كيف يسيطر على اليمن على الرغم من الوكالة المطلقة التي منحها للخليجيين وحلفائهم برعاية الأقمار الاصطناعية الأميركية والغارات الإسرائيلية.
هذا يوضح الأسباب التي أدت إلى تنظيم قمة هلسنكي.. كآلية تعيد إنتاج علاقات بين قوى عالمية. حدث خلل في موازنات القوى بينها. كانت واشنطن تمسك بالعالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبناء على هذه الهيمنة حاولت تركيب مناطق ودول على قياس حاجات هيمنتها. وكان طبيعياً أنّ يكون الشرق الأوسط مركز الصراع.. فبعد سبات استمر عشرين سنة، استيقظ الروس وعادوا إلى سورية.. ملقنين الأميركيين دروساً فنصيحة في فنون تسلق القرار الدولي، علماً أنّ موسكو تفتقد للوضعية الاقتصادية المتفوقة للقوى العظمى.. وتعيش بمعدل أربعين في المئة على صادراتها من الغاز والنفط، لكن هذا لا ينفي أنّ موسكو دولة متمكنة عسكرياً وتوازي واشنطن في الأسلحة الاستراتيجية وقد تتفوّق عليها.
وبما أنّ معركة سورية لا تتطلب إنفاقات ضخمة، انخرطت فيها موسكو بـ «سخاء» وعززت قواعدها البرية في حميميم وطرطوس. لدينا إذاً قمة تعكس تبدلاً في موازين القوى في الشرق الأوسط.. وهذه حقيقة لا لبس فيها.. لذلك كانت الدعوة لهلسنكي. وبما أنّ الأميركيين هم المسيطرون على العالم منذ 25 سنة، وهم الذين تقلص نفوذهم في المشرق.. فمن الضروري أنّ يكونوا البادئين بعرض تنازلات جيو بوليتيكية واقتصادية لمصلحة الروس.. هنا يشرئب المكر الأميركي. فإذا كانت واشنطن متضايقة من الروس لتوسّع نفوذهم، فإنها ترى فيهم قوة غير قادرة على التوسّع بسرعة. ويستندون على ذلك بأن روسيا دخلت إلى سورية بعد تمهيد إيراني سبقها إلى دمشق. ولا يمكن لموسكو ولوج العراق إلا من البوابة الإيرانية. وكذلك لبنان واليمن في مراحل لاحقة.
لذلك تقوم الخطة الأميركية في هلسنكي على نقاط عدة. وأولها تحييد روسيا عن الصراع الأميركي ـ الإيراني.. كيف يكون ذلك. يبدأ بعرض نفوذ روسي حصرياً في معظم سورية باستثناء كانتون كردي وتثبيت ما اقتطعته موسكو من أوكرانيا في جزيرة القرم.
بالمقابل تريد واشنطن حياداً روسياً كاملاً في موضوع الصراع الإيراني ـ الأميركي، يصل إلى ضرورة إقناع الصين والهند بمقاطعة النفط الإيراني.
ويبدو أنّ آمال الأميركيين لا تقتصر على إقناع روسيا للصين والهند بمقاطعة إيران. فقد يذهبون إلى حدود مطالبة الروس بدعم أوروبا في الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.. الأمر الذي يظهر مدى العداء الذي تبطنه الولايات المتحدة للجمهورية الإسلامية في إيران. ويكشف أنّ واشنطن ترى في طهران عدواً فعلياً قابلاً للتوسّع في عالم إسلامي بدأ يخرج تدريجياً من الآثار المدمّرة للفتنة السنية ـ الشيعية. أما النقطة الثالثة التي تراهن واشنطن على دور روسي إيجابي فيها فهي صفقة القرن. ويريد البيت الأبيض تشجيعاً روسياً للفلسطينيين للمضي فيها، مراهنين على العلاقات الحسنة بين الإسرائيليين والروس.
هل هذه أمور ممكنة؟
النقاط المعروضة لا تضيف شيئاً على ما يملكه الروس حالياً ـ فهم في روسيا وأوكرانيا من دون موافقة أميركية ـ ولديهم علاقات واسعة بإيران منذ وصول بوتين إلى السلطة. وهذا الأخير يعرف العلاقة بين روسيا ذات أفق عالمي وبين إيران مناوئة للنفوذ الأميركي.. وهم يعرفون أنّ حياد روسيا في ملفات إيران وأوروبا والصين والهند.. إنما هو ضرب لمنظمة شانغهاي التي يعوّل عليها الروس لمعادلة التفوق الاقتصادي الأميركي في مراحل لاحقة.
هذه هي الأجواء التي تدفع قمة هلسنكي إلى الاعتراف بدور روسي عالمي لا يعمل في خدمة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها في خدمة تطوّر الدور الروسي حصراً وعلى أساس تحالفاته الإيرانية والسورية ومنظمة شانغهاي.
هل هي إذاً قمة ذاهبة إلى فشل؟
يمكن الاعتقاد بأنها ذاهبة إلى الاعتراف بالدور الروسي في أوكرانيا وسورية وبعض أنحاء أميركا الجنوبية. أما الطموحات الأميركية فهي حبر على ورق، لأن الصين وروسيا وإيران، دول يراهن عليها لقلب الاحادية الأميركية وبناء عالم متعدد القطب.